في منتصف شهر يونيو المنصرم، استقبلت صناعة ألعاب الفيديو الجزء الثاني من رائعة المصمم الأمريكي أميركان ماك جي "أليس: الجنون يعود"، وقبل ذلك في آخر شهر فبراير من عام 2010م، جاء المخرج تيم بورتون بفيلمه الضخم "أليس في بلاد العجائب" ليغزو صالات السينما حول العالم، بحضور جماهيري حافل. هكذا هو الحال دائماً فلا تدور عجلة العام من دون أن نجد عملاً إبداعياً يقتبس أو يتكئ على بعض أحداث وشخصيات عمل لويس كارول الخالد "مغامرات أليس في بلاد العجائب" 1865م، وصنوها اللاحق "عبر المرآة" عام 1872م. كان لويس كارول - الاسم المستعار لعالم الرياضيات الانجليزي "تشارلز لوتويدج دودجسون" - الذي اشتهر في أوساط أوكسفورد بمؤلفه في مجال تخصصه "إقليدس ومناوئوه المعاصرون"، مولعاً بالكتابة للأطفال، وقد خصص كلا العملين السابقين لأليس ليدل ابنة هنري ليدل نائب رئيس جامعة أوكسفورد، وهو ما در عليه كثيرا من المال والشهرة، فقد أعجبت الرواية الجمهور بل كان من ضمن قرائها الملكة فيكتوريا، والصغير الذي سيبرز فيما بعد الأديب أوسكار وايلد، إلا أن ذلك لم يغير شيئاً من تداعيات الأحداث التي ابتدأت بانفصال كارول عن أسرة ليدل بشكل مفاجئ عام 1863م، ثم عزلته في جلدفورد وإصابته بذات الرئة التي كانت سبب وفاته عام 1898م. في روايته الفانتازية يروي كاورل حكاية فتاة صغيرة اسمها أليس كانت تتنزه مع أختها، وفي غفوتها وقت الاستراحة، شاهدت أرنباً يتذمر لتأخره عن حفلة شاي، استثارها الفضول فتتبعته لتراه يدخل جحراً في الغابة، لكنها فضولها الزائد جعلها تغامر بالدخول في جحر الأرنب، لتسقط في عالم مدهش مملوء بالشخصيات الغرائبية، حيث يبقى حجمها عرضة للتضخم والتقزم مرات عديدة بسبب تناولها أو شربها لمواد مختلفة من ذلك العالم السحري. تذرع أليس العالم المثير وتقابل العديد من الشخصيات التي أصبحت غائرة في الوجدان الشعبي العالمي، صانع القبعات المجنون، طائر الدودو، الجريفون، قط شيشاير، الأرنب الأبيض، والعديد من الشخصيات التي سحرت قراء الرواية كباراً وصغاراً. يقول الدكتور أحمد خالد توفيق في معرض كلامه عن لويس كارول "أحياناً ما تترك موهبة بعض الكتّاب لمسة لا تمحى على الأدب العالمي، وربما على الوجدان الشعبي ذاته"، وهو بالضبط ما يجده الباحث عند استقرائه في العديد من الأعمال الفنية بأجناسها المختلفة، ففي عام 1956م رسم الفنان الأسترالي تشارلز بلاكمان، تسعاً وأربعين لوحةً تدور في معظمها حول "أليس" ومغامرتها في بلاد العجائب، ثم جاء الإسباني سلفادور دالي رائد السريالية عام 1969م، ورسم اثنتي عشرة لوحة عن أليس، كما نحت منحوتة لأليس وهي تحمل قوساً من يديها الشبيهتين بباقتي زهور. في روايات الكوميكس المصورة، نجد حضوراً لبعض شخصيات مغامرة أليس ولعل أبرزها صانع القبعات المجنون، الذي يبرز ظاهراً في "باتمان" الرواية المصورة التي كتبها بيل فينجر ورسمها بوب كين عام 1939م، أما في المانجا اليابانية فقد تأثرت مانجا "باندورا هارتس" التي رسمها وكتبها جن موتشيزوكي عام 2006م. في السينما قدمت العديد من الأفلام التي تروي حكاية أليس كما رواها كارول أو بتحويرات ما، أو بتداخل مع عمل كارول الآخر "عبر الزجاج"، ففي عام 1903م أخرج البريطاني سيسيل هيبورث فيلماً مدته ثماني دقائق وتسع عشرة ثانية، ثم تتابعت الاقتباسات حتى ظهور فيلم ديزني الرسومي عام 1951م، واستمرت لتبلغ قرابة الأربعين فيلماً ومسلسلاً، باعتبار فيلم تيم بورتون الأخير. بيد أن الاقتباسات الطليقة من الرواية تبدو أشد غزارة في تتبعها، لكن شهرة العمل السينمائي أو التلفزيوني تجعل الاستشهاد أبلغ وأبرز، ففي مصفوفة الأخوين واتشوسكي "ذا ماتريكس-The Matrix" عام 1999م، عند أول تواصل بين نيو ومورفيوس، يخبره الأخير بأن يتبع الأرنب الأبيض، وهو ما ظهر لاحقاً كوشم على ظهر أحدهم ليصل نيو لاحقاً لما عرف بجحر الأرنب حيث يلتقي مورفيوس وأعضاء عالم الواقع. الأخوان واتشوسكي صرحا لاحقاً بأن "أليس في بلاد العجائب" ثيمة مستمرة في ثلاثية المصفوفة، الأمر المغاير لبعض المسلسلات التلفزيونية الشهيرة مثل "لوست"، "تشارمد"، "ويرهاوس 13"، والتي تكتفي بإشارات جانبية أو جوهرية ولكن ضمن نطاق حلقة واحدة من أحد مواسم المسلسل. هناك احتفاء أكبر في الأنمي الياباني، حيث يمكن أن نجد الدلالات المتعددة والإشارات الكثيرة لأليس في أعمال كبار المخرجين مثل مايزاكي في "جار توتورو" عام 1988م، أو الراحل ساتوشي كون في "بابريكا" عام 2006م، أو حتى المخرجين الجدد مثل "شينسوكي ساتو" في فيلمه "جزيرة السلوان: هاروكا والمرآة السحرية" عام 2009م، كما أن مسلسل الأنمي الشهير "بروجكت أرمز" عام 2001م، متأثر بشدة بالعديد من أفكار "أليس في بلاد العجائب". عالم ألعاب الفيديو هو الآخر يجد في أليس وعبر الزجاج، مخزناً هائلاً بالأفكار والشخصيات الغرائبية التي يستطيع من خلالها استثمار نماذج جديدة، يمكن تعداد عشرات الألعاب، لكن أبرز الألعاب التي يعرفها الجمهور السعودي مثل "سايلنت هيل"، "إيفل توين"، "ذا ثيف"، "كينقدوم هارتس"، "ميجامي تينشي"، "غراي ماتر"، تحوي في داخلها دلالات مباشرة أو غير مباشرة، وبعض الشخصيات الشهيرة، والعبارات، والعوالم بل وحتى الأحداث مثل حفلة الشاي الشهيرة. ربما يكون مجال الموسيقى هو المجال الأكثر إثارة للتأمل، فلغة التواصل هنا مختلفة قليلاً إن استثنيا عالم الأغاني المصورة. في أغنية "الأرنب الأبيض" لفرقة جيفرسون إيربلاين عام 1967م، تفاصيل رحلة إنسان مخدر إلى عالم ممتلئ برموز "أليس في بلاد العجائب"، لكن إن استثنينا صراحة الاسم في حال فرقة جيفرسون إيربلاين أو فرقة نازاريث التي أصدرت ألبوم "ماليس في بلاد العجائب" عام 1980م، فربما تصيبنا الدهشة من الأسماء الموسيقية التي ارتبطت برائعة لويس كارول، مثل فرقة بينك فلويد، توم بيتي، فرقة إيروسميث، فرقة امبروسيا، والفنانة الشابة ليزا ميتشل. مثل هذا الاستقراء السريع للأثر البالغ لرواية "أليس في بلاد العجائب"، لا يمكن أن يتم إلا مع سقوط العديد من الأمثلة التي يمكن أن يقترحها القراء الكرام، وهو ما يؤكد أن الأمر يحتاج إلى بحث موسوعي ودقيق لمثل هذا الأثر الخالد، وبخاصة أن لويس كارول يذكرنا على الدوام بحضوره كلما تصفحنا أجهزتنا الإليكترونية أو نصبنا برنامجاً ما، ووجدنا ملفاً بعنوان "Read Me - اقرأني"، إنها محاكاة للعبارة التي تقرأها أليس على ملصق القارورة التي تجدها عند سقوطها في جحر الأرنب وقد كتب عليها "اشربيني"!.