اعترفت وزارة الصحة، وفقاً لما جاء في إستراتيجيتها العشرية التي أقرتها مؤخرا، ببعض نقاط الضعف التي ظلت ملازمة لمسيرتها المتعثرة، ومن ثم أثَّرت، باعترافها، سلباً على مستوى الخدمة الصحية بشقيها: العلاجي والوقائي. وإذ لا يتسع المقام لاستعراض كل ما ورد في الخطة، فإنني سأكتفي باستعراض بعض ما ورد فيها من نقاط ضعف اعترفت بها الوزارة. فمن أبرز تلك النقاط ما يتعلق بما نوهت عنه في مقال الأسبوع الماضي من ضعف -إن لم أقل انعداما- اهتمام الوزارة بتأهيل المشرفين الذين يتولون إدارة المستشفيات والمراكز الصحية. وجاء اعتراف الوزارة بهذا الجانب عن طريق تأكيدها على أن "هذا الجانب، (= تأهيل وتطوير المهارات القيادية الإدارية)، يعتبر واحداً من أبرز مواطن الضعف لدى وزارة الصحة عبر تاريخها، حيث تم التركيز في فتراتٍ سابقة على رفع أعداد الأطباء وطواقم التمريض، دون النظر إلى توفير الطاقات الإدارية المؤهلة، التي سيناط بها مسؤولية إدارة واحدة من أكبر وزارات الصحة في العالم". وهو ما أوصلها إلى وضع "تفتقد فيه حالياً إلى الأعداد الكافية من الكوادر الإدارية المؤهلة في الإدارات المختلفة بالوزارة، وكذلك في مديريات الشؤون الصحية، والمستشفيات التابعة لها". ولعل من أبرز نقاط ضعف الوزارة، والتي لم تتطرق إليها في خطتها الاستراتيجية، ما يتعلق بمركزية ميزانيتها. ومعلوم ما ينبني على مركزية الميزانية من سوء في توزيع الموارد، وبطء حركتها، إضافة إلى بطء إجراءات الأعمال المالية والسمعة الائتمانية للمديريات وفي تقديري أن تضعضع مستوى القيادات الإدارية في المستشفيات والمراكز الصحية يقع على قمة هرم نقاط ضعف الوزارة، وبالتالي، فهو واحد من أكثرها تأثيراً في تردي مستوى الخدمة. وفي هذا المجال، لدي تجربة شخصية أحب أن أعرضها هنا، للتدليل على ما أزعمه من تراخي الوزارة في مجال اختيار وتأهيل مديري المستشفيات والمراكز الصحية. فقبل ما ينيف على خمس عشرة سنة خلت، كنت أعمل بوظيفة (محاسب) في الإدارة المالية بإحدى مديريات الشؤون الصحية. وفي يوم من الأيام، استدعاني مدير عام الشؤون الصحية ليبلغني اختياره لشخصي لإدارة أحد المستشفيات بالمنطقة، رغم أن تأهيلي الدراسي حينها ليس في ذات المجال، كما لم أحضر من قبلُ أي دورات أو حلقات في مجال إدارة المستشفيات. مع هذا، صدر قرار تكليفي بإدارة المستشفى، الذي بقيت على رأس هرمه الإداري لمدة نافت على ست سنوات!. والوضع اليوم لم يتزحزح عن ذي قبلُ، فتكليف أي موظف، بغض النظر عن نوعية الوظيفة المثبت عليها، بإدارة مستشفى أو مركز صحي، يكاد من الأمور المعتادة في وزارة الصحة. ومن مظاهر الضعف الأخرى التي اعترفت بها الوزارة ما يتصل بافتقارها إلى "العدد الكافي من الكوادر البشرية المؤهلة في جميع التخصصات الطبية والصيدلانية والفئات الفنية المساعدة". والدليل على ذلك، وفقاً للوزارة، أن معدل الأطباء والتمريض (لكل ألف مواطن) لم يتعد حتى عام 1430ه (2،18 للأطباء، 4،1 بالنسبة للتمريض). إلا أن ثمة ملاحظة على نسبة التمريض بالذات. ذلك أنني أعتقد أن الوزارة أخذت في اعتبارها عند تحديدها لتلك النسبة، جميع من هم مثبتون على وظائف التمريض من السعوديين، رغم أن الواقع يشهد أن نسبة كبيرة منهم لا تمارس مهنة التمريض لأسباب كثيرة، يأتي في مقدمتها ضعف تأهيلهم، وخاصة منهم خريجي المعاهد الصحية الثانوية. وبالتالي، فإني أعتقد أن هذه النسبة، في بيئتها العملية، أقل بكثير من النسبة التي أعلنتها الوزارة. وكنت أشرت في مقال الأسبوع الماضي إلى تعاضد نقص عدد الكوادر الفنية مع ضعف تأهيلها في التأثير السلبي على مستوى خدمة وزارة الصحة، فعادت الوزارة للتأكيد على هذا الأمر بقولها "... وإضافة إلى النقص العددي في الكوادر الفنية، فإن الوزارة تعاني كذلك من النقص النوعي المتمثل في تدني المؤهلات العلمية للعديد من الفئات، ويكفي للدلالة على ذلك الإشارة إلى أن ما نسبته خمسة في المائة فقط من إجمالي فئات التمريض تحمل مؤهل البكالوريوس والبقية هم من حملة الدبلوم". ومما أثارته الخطة من نقاط ضعف صاحبت أداء الوزارة ولا تزال، ما واكب خططها الخمسية الثمان السابقة من "عدم تركيز على وضع وتطبيق معايير موحدة للجودة، وذلك لضمان الحصول على خدمات صحية جيدة وآمنة، الأمر الذي أدى إلى كثير من التذمر لدى المستفيدين من الخدمة. وإلى ما حدث ويحدث في أحيان عديدة من أخطاء وتجاوزات طبية تؤثر على سلامة المرضى، وتستهلك الكثير من جهود الوزارة في سبيل التحقيق في أسبابها وتحليل تداعياتها". وهذان الأمران، تدني مستوى الخدمة الصحية التي تقدم في مصحات الوزارة، وما صاحبها ويصاحبها من أخطاء طبية، ظلت الوزارة ترفض الاعتراف بهما طوال مسيرتها السابقة، إلا أنها عادت أخيراً تحت ضغط الواقع المحبط إلى الاعتراف بهما. والسؤال المحير هنا هو: كيف مضت ثماني خطط خمسية بما اشتملت عليه من تكاليف باهظة دون أن تحقق حداً أدنى من معايير ضمان تقديم خدمة صحية معقولة؟ ولعل من أبرز نقاط ضعف الوزارة، والتي لم تتطرق إليها في خطتها الاستراتيجية، ما يتعلق بمركزية ميزانيتها. ومعلوم ما ينبني على مركزية الميزانية من سوء في توزيع الموارد، وبطء حركتها، إضافة إلى بطء إجراءات الأعمال المالية والسمعة الائتمانية للمديريات، إذا جاز التعبير. ذلك أن الوزارة، وفقاً لمركزية ميزانيتها الحالية، تنوب عن عشرين مديرية للشؤون الصحية في المملكة فيما يتعلق بمشاريعها وبرامجها وتوريداتها، وبالجملة: أعمالها المالية، رغم أن هذه المديريات، العامة منها بالذات، تنوء بأعمال تكافئ أو تزيد على أعمال بعض الوزارات. وإذا كانت الميزة الرئيسية المبتغاة من الميزانيات المستقلة، بالنسبة لفروع الوزارات، إنما تكمن في سرعة أداء الأعمال المالية عموما، وتأمين المشتريات بما فيها مشاريع البنية التحتية، وبرامج التشغيل والصيانة، إضافة إلى زيادة الثقة من المتعاملين معها من قبل المقاولين والموردين، فإن مديريات الشؤون الصحية بأمس الحاجة لإقرار ميزانيات مستقلة لها. وإن المراقب ليأخذه العجب عندما يرى بلديات صغيرة من فئة (ه) وهي تمتع بميزانيات مستقلة، والهدف كان ولا يزال، ضمان سرعة البت في أعمالها المتعلقة بمصالح حيوية تهم المواطن في حياته اليومية، إلا أنها لا تقاس بتلك المصالح التي تضطلع بها مديريات الشؤون الصحية. ذلك أن أعمالها تتعلق بأثمن ما يملكه المواطن: صحته، ومع ذلك، فهي لا تتمتع بمثل هذه الميزة (= الميزانية المستقلة). وإنني في غاية العجب لعدم إيلاء وزارة الصحة هذا الأمر الحيوي والهام، اللهم إلا إذا كانت هي من تصر على بقاء الوضع على ما هو!. وإذ تتذرع الوزارة في انخفاض اعتماداتها المالية مقارنة باعتمادات بعض الدول المتقدمة!، فذاك أمر لا يسلم به لها. ذلك أن هذا التذرع سيكون مقبولاً لو أنها استطاعت تقديم خدمة مقبولة من الناحية النوعية، إذ سيكون النقص مقصوراً على الناحية الكمية فقط. لكنها لم تفلح في تحقيق هذه، كما لم تحقق تلك. فاعتمادات تصل إلى ثلاثة وثلاثين مليار ريال كافية، بل وتفيض، لتقديم خدمة طبية تتوافر على الحد الأدنى من المعايير المقبولة. أما في ظل الوضع الحالي، فإن زيادة الاعتمادات لن يصاحبها ارتفاع في مستوى الخدمة، هذا إن لم تنشأ معها معادلة عكسية ينخفض فيها مستوى الخدمة كلما زادت ميزانية الوزارة. ولا يمكن للمتابع أن يتصور وجود هذا الكم من الأخطاء الطبية وسوء ما يقدم من خدمة في ظل ميزانية تصل إلى هذا الرقم الضخم!