أنا مثل الكثيرين الذين لا تعجبهم قصة شعر الكدش التي انتشرت بين الشباب في الآونة الاخيرة ولكنهم مع ذلك لا يعيروننا أي اهتمام. يمكن اعتبار هذه أولى مزاياهم وهي عدم الرضوخ لعيون المجتمع الحارقة. على الرغم من أنهم يحاطون بالناقمين والمتهكمين إلا أنهم مصرون على قصة شعرهم المفضلة . والمزية الاخرى أنهم يتعاملون بطريقة أكثر قبولا للآخرين . ففي الوقت الذي ينتقدهم فيه الآخرون ويطالبون بحلق شعورهم يؤمنون هم أن للآخرين- حتى من يهاجمهم شخصيا- الحق في أن يقص شعره أو يلبس الزي الذي يريده حتى لو كان بالنسبة لهم مضحكا. وفي أحد البرامج التلفزيونية التي تناولت قصتهم على اعتبار أنهم وباء يجب التخلص منهم بأسرع طريقة أظهر هؤلاء طبيعة نفسية سمحة ومرحة وخالية من أي نبرة أخلاقية تؤثم وتلطخ الآخرين . لكن المذيع المغسول مخه بخطاب الإعلام الوعظي المتهالك ظل يردد عليهم نصائحه وهم يقابلونها بابتسامات ساخرة. بالإضافة إلى المزايا، فمن الممكن أيضا أن نتعلم منهم أشياء كثيرة بشرط أن نوقف حملات النصح المملة . أول ما نتعلمه منهم هو أن نظرتنا للأشياء الجميلة والأنيقة هي فقط تعكس نظرتنا الخاصة للجمال والأناقة . إننا نعتقد أن قصة الكدش أو غيرها غير جميلة ومستفزة، لأنها لا تناسب معاييرنا التي نؤمن بها للجمال وهي معايير موجودة في عقولنا فقط. أي لا يمكننا فرض ذوقنا على العالم على اعتبار أنه مقياس الجمال العالمي . ثانيها أن الشباب والشابات هم الأكثر قربا وفهما لعالم الموضات المتغير . هذا لا يعني فقط مجرد الملابس أو قصات الشعر ولكن الأفكار التي تقع خلفها . في وقت سابق كان تنسيق الألوان بطريقة كلاسيكية علامة على الأناقة ولكنه تحول بعد ذلك إلى علامة على التقليدية . لهذا كسر هؤلاء الشباب المعيار الكلاسيكي للأناقة وشرعوا بارتداء ألوان جديدة صارخة . ذات الشيء يحدث مع قصات الشعر. فقصة الكدش المنفوشة غير المرتبة تريد بشكل أساسي أن تصدم تصورنا الثابت عن النموذج الصحيح للشعر الجميل، وهو الشعر الناعم المتطاير ( أذكر أني شاهدت شاباً يضع قصة كدش ويرتدي جزمات بلون أحمر فاقع. كان كل شيء فيه يقول إنه لا يريد الانتماء لمعاييرنا للأناقة والجمال التي كانت ستعجب به لو أنه قص شعره بطريقة كلاسيكية كطالب مجتهد، واختار ألواناً ترضى عنها ذائقتنا الخاصة). عدم تفهمنا لهذه الموضات التي نبتعد عنها كلما نكبر يجعلنا نعتقد أننا قادرون على تغيير أذواقهم بنصحهم أو إرغامهم بالقوة . كما نعرف هذا ما لم يحدث رغم كل الضغوط التي مورست ضدهم . الأمر الثالث الذي يمكن تعلمه هو أن وضع حدود لآرائنا وأذواقانا وميولنا . الكثيرون استفزتهم مثل هذه القصة ,وهناك للأسف تعامل مع الشباب الصغار بطريقة مهينة ومؤلمة نفسيا لأنهم يريدون أن يفرضوا لونا واحدا حتى لو كان باللبس أو السلوك. ولكن إصرار هؤلاء الصغار على ذوقهم قادر ربما على تمرين عضلاتنا الضامرة لاحترام وقبول الآخر في قضايا أكبر في المستقبل. الأمر الرابع هو تجاوز مسألة اختزال الآخرين بالمظهر الشكلي . أي عدم الإعجاب ب" الكدش" لا يعني عدم الإعجاب بالشخص نفسه . وهذا يطال جوانب كثيرة من حياتنا ( خصوصا مع النساء) عندما يتحول الشكل هو الحكم النهائي على الشخص. كل البرامج التي تهكمت عليهم بدت سخيفة وهي تقدم في النهاية نصائح تأثيرها صفر. كل المحاولات لإجبارهم بالقوة فشلت ومن الطبيعي القول إنها ستفشل حتى لو بعد مائة عام . ومع ذلك هي تكرر باستمرار وبدون أن تفهم أنها لم تحقق أي شيء . لماذا ؟ !. لأن هؤلاء الشباب مرتبطون بزمنهم وواقعهم ومن السذاجة البالغة محاربة الزمن والواقع. الشباب والشابات سيستمرون في وضع قصات جديدة ويلبسون أزياء جديدة , ومن السذاجة الاعتقاد أننا قادرون على جعلهم يتخلون عنها ويرجعون لأيام البشوت والشيلة. مع تقديرنا لهذه الأزياء إلا أنها من الماضي . من الغريب أن غالبية الأجيال تتعامل مع هذا الأمر بذات الطريقة . كل من هم أكبر من هؤلاء الصغار يمارس عليهم حملة مختلطة من السخرية والنصح التي تصل في بعض الأحيان إلى استخدام القوة. وما ان يكبر هؤلاء الصغار حتى يقوموا بذات الشيء . وهذا ما يفترض أن يقطعه جيلي الأقرب لهؤلاء الصغار , قد نختلف معهم في الذوق ولكن لا يعني أن نمارس عليهم وصاية أو نسخر منهم أو نضطهدهم . أظن أن هذا بإمكانه أن يجعل التواصل أكثر عمقا ومحبة. وسيكون بذلك أفضل من أن يلعب كل شخص كبير على من هو أصغر منه حتى لو بعامين الدور المبتذل للناصح الذي جرب الحياة . يمكن التنبيه إلى شيء واحد مهم، وهو أن التمرد الشكلي هو في الواقع المؤشر الأول لتغييرات فكرية أعمق . وهي تغييرات أهم لأن التمرد الشكلي سيزول مع السنوات أما التمرد الفكري فيمكن أن يستمر طول العمر . صحيح أن الدفعات المتلاحقة من الشباب والشابات الذين يأتون إلينا محملين بموضات وتعابير جديدة تصدم ذوقنا، وستجعل حياتنا صاخبة وحية إلا أنها ستكون صاخبة وحية على مستوى الشكل فقط- وهذا أمر جيد بحد ذاته- إلا أن الأهم أن يترافق ذلك بحياة وصخب على مستوى الأفكار. ليس من الضروري ان تعجبنا الموضات الشبابية ولكن لا يعني هذا تجريمها المستمر الذي يصل أحيانا إلى القوة والإرغام المهين ( حلق الشعر بالقوة أليس شكلاً من أشكال الاغتصاب النفسي ؟!) . أتذكر صورة مزعجة شاهدتها قبل مدة لمجموعة من هؤلاء الشباب الصغار بعد إلقاء القبض عليهم . اللقطة تصورهم من الخلف حتى لا يتم فضحهم على اعتبار أنهم قاموا بعمل مشين. لا بد أن نتساءل بعد ذلك أي مجتمع يمكن أن يتعامل مع أبنائه وبناته الصغار بهذا الشكل المذل ؟ . أترك لكم الإجابة.