حين تغبرّ الآفاق كسالف الأيام في مدينة الرياض وغيرها تصعب الرؤية، وتثقل على الناس الحركة، وتختلط على القوم الأشياء فلا تتميز، وتتشابه عليهم الدروب، وتلك الحال الطبيعية تعيشها الثقافة حين تعصف في أجوائها الريح، فتعبث بأبصارنا، فنظن الدروب كلها تُوصل إلى الهدف المقصود، وتأخذ بنا إلى الغاية المرُومة، فنسلك سبيلا وعرا، يزيد من بلائنا، ويُقصينا عن مرادنا. حين اغبرّت الأجواء تقاطرت إلينا النصائح، وغُيّب الطلاب، وأُغلقت الأبواب، وقفنا بحزم ضد هذه الحالة الطبيعية الطارئة، فما لنا لا نقف تلك الوقفة الحازمة مع ما نراه في ثقافتنا من رياح مستديمة، تُعكر الجوّ الذهني بما تخلقه من تصورات خاطئة، ورؤى عليلة؟ إنّ الخواطر العارضة هينة سهلة كأحوال الجو العابرة نختبئ عنها هنا وهناك، فتزول وتنجلي ولم تخلّف أثرا يُذكر؛ لكن الأفكار التي تلدها أمور قارّة في الثقافة، يسهل تشرب الناس لها، ويعسر دون جهد جهيد التخلص منها، فتزيد من صعوبة رؤية العقل، ويتفاقم الغبار على الأذهان ويستحوذ. في يوم من أيام العام دار حديث خطيبنا حول الانبهار بالغرب الغرب وحده دون الشرق! والمنبهرين بحضارته وإبداعاته، فلامهم وعنّف عليهم، أنْ تأخذ بألبابهم حضارة الغرب، وتستأثر بعقولهم إبداعاته، وهم يرون عظمة الله عز وجل وإبداعاته، لقد أزعجه أنْ تلتفت عقول بعض المسلمين إلى عظمة الغرب، وتدع عظمة الله تعالى ! وجلس كعادة كثير من الخطباء اليوم يرثى لهؤلاء العميان، ويأسف على المنبهرين بحضارة الغرب، وهم يرون عظمة الخالق سبحانه وتعالى فلا تُبهرهم وتأخذ بألبابهم، وتُغنيهم عن الانبهار بحضارة هذا الغرب. من عجب أنّ هذا الخطيب أخرجنا ونفسه من المقارنة، فدعانا إلى مقارنة عظمة الله وخلقه بما صنعه الغرب؛ لكنه تناسى أن يقارن بين ما أتينا به وهو معنا وبين عظمة الله، فإذا كان الغرب أتى بالمعجزات حتى اضطر مثل هذا الخطيب أن يتخذ صنع الله في التخفيف من التأثر بالحضارة الغربية، أفلا يدعونا أيضا للتبرؤ من قومه وجماعته وثقافته التي لم تستطع أن ترقى إلى مستوى المقارنة بينها وبين صنع الله تعالى ؟! إنّ ما فعله الخطيب كشف عورتنا نحن المسلمين أمام الغرب وحضارته حينما جعلها ندا لعظمة الله تعالى وصنيعه، لقد أراد الابتكار في المعنى فأتى بالعجب العجاب، أراد أن يقول الناس: أتى بشئ لم يأت به من قبله، فقالوا ذلك؛ لكنهم قالوه في الاستهزاء به والزراية عليه، قالوا: لم يقل غافل قط كهذا! إن الناس لم ينبهروا بالغرب؛ لأنهم رأوه أقدر وأعظم من الله عز وجل ، ولم ينبهروا به؛ لجهلهم بالله تعالى وبدائعه، وهم المؤمنون به، حتى تُذكرهم بها، لقد أعجبهم الغرب؛ لأنه كشف لهم عوارهم وضعفهم وهزالهم وضياعهم وتخلفهم، لقد أوضح لهم الغرب أن ما يعدونه محالا أصبح حقيقة، وما يعدونه صعبا سهلا متحققا، لم تشرئب قلوبهم إلى شئ إلا وجدوا الغرب سبقهم إليه، بل دلهم عليه، إنّ الانبهار لم يكن لولا سوء ما هم عليه، لكن مصيبة الغرب أن حضارته وثقافته انتقدت قوما، لا يؤمن أكثرهم باستحقاق ثقافته للنقد، قوما لم يُفرقوا بين الدين والثقافة، هنا يكمن الرهان، أيها الخطيب، حينما تكشف لماذا ينبهر المسلم بالغرب؟ ما الذي يملكه هذا الغرب حتى أضحى مؤرقا لنا في كل شيء؟ إنه الجدب في بلادنا الجدب العقلي والعملي، فثَمّ يُوجد الحل، وليس بهذه المقارنة الظالمة التي ترفع من شأن الغرب ولا تضع، سبحان الله يُقارن المخلوق بالخالق، منتهى النجاح والإبداع والروعة للمخلوق أن يُقرن بخالقه، هل أردت أن تضع في أذهان سامعيك أن الغرب عظيم؛ لكن الله أعظم منه؟ من ذا يجهل هذا؟ لقد أردت أيها الخطيب أن تهوّنَ من شأن الغرب في نفوسنا فزدتنا به كلفا وإعجابا، أهذا ما أردته؟ لقد كان من الخير لك ألّا تزج بصنيع الخالق جل جلاله في هذه المعركة، لقد كان ميدانك هو أنْ تبحث وراء أسباب الانبهار ثم تعالجها، فدراسة أسباب الأدواء كما تعلمنا جميعا مقدم على وصف الدواء. هذا هو زمان الغرب، وللغرب حق أن يفخر، وللناس حق أن ينبهروا به، ويبقى السؤال المحزن حقا: هو متى نستطيع أن نجعل من أنفسنا نحن المسلمين أُمثولةً ونموذجا ينبهر به الغربي والشرقي، دعهم يأخذوا عرق جبينهم، ولنبحث نحن عن الطريق الذي سلكوه؛ لنأخذ إن كان بنا طاقة المشعل منهم، أما أن نستضيء بنورهم، ونشتمهم فلا أظن هذا دربا نُوفي به على مقصودنا الأهم، وهدفنا الأسمى. حين سمعت الخطبة قلت: أيهما أولى بالخطيب أنْ يهتم به، انبهار المسلمين بأفراد من علمائهم الماضين والمعاصرين، حتى جعلوهم قرناء للنص الديني، وجعلوا أفهامهم غاية ما يدل عليه، وعادوا فيهم ووالوا أم انبهار المسلمين بمنجزات الغرب وثقافته؟ أيهما أولى بالدراسة والنظر الآن انبهار المسلم بمذهبه وجماعته التي لا يعدل بها أحدا حتى صار يُقسم الناس بناء على الموقف منها أم الانبهار بالغرب وثقافته؟ لا بأس أيها الخطيب سنجتث الغرب وثقافته من نفوسنا؛ لكن يبقى السؤال كيف نتخلص من الانقياد الأعمى (الانبهار الذي لا يُرى ولا يُعترف به) للجماعة الدينية التي ننتمي إليها، والفرد الذي أضحينا عالةً عليه في كل شيء، ونقاتل قولا وفعلا في تسييد أفهامهما؟ * كلية اللغة العربية - جامعة الإمام