تمتلك البشرية اليوم موروثا رائعا من الحكمة في أمور الحياة المختلفة المبنية على التجربة والتأمل، ولذا فان العلوم وعلى رأسها علم الطب يعتمد في تطور وتوسع آفاق معرفته وكذلك في ممارسته لعلاج المرضى على الحكمة اضافة الى العلم فهما صنوان لا ينجح الطبيب الا بهما. ومن الحكمة في الطب تأمل الأمراض المختلفة من جوانب عدة لها، تتجاوز مظاهرها المرضية في الانسان، لتصل إلى بحث أصولها الوراثية والمكتسبة، وأسباب انتشارها وتحليل ذلك، واستخلاص نتائج سليمة من الدراسات الاحصائية الواسعة حولها في المجتمعات المختلفة، وخاصة نتائج استخدام الوسائل العلاجية لتمحيص المفيد من الضار من عديم الجدوى، بما يمكن الاطباء من الوصول إلى معلومات طبية سليمة في وسائل الوقاية والعلاج، تقال للمرضى ويتم التوصية بها. التقرير السابع لعلاج ضغط الدم ظهرت في نهاية العام الماضي ديسمبر 2003م وبداية العام 2004م اصدارات التقرير السابع للجنة المشتركة الامريكية للوقاية وتشخيص وتقويم وعلاج ارتفاع ضغط الدم في الشرايين، المنبثقة عن المجمع القومي الامريكي للقلب والدم والرئة، والتي تتولى منذ ثلاثة عقود وضع النصائح الطبية الخاصة بعلاج ارتفاع ضغط الدم في الولاياتالمتحدة. كما صدر التقرير الرابع لعلاج ارتفاع ضغط الدم هذا العام 2004م عن «جمعية ضغط الدم البريطانية» وقبله تقرير «جمعية ضغط الدم الأوروبية» وكلها سنعتمد عليه في هذه المقالات حول ضغط الدم، خدمة لاثراء الثقافة الصحية للقارئ الكريم. احصائيات عامة ذكرت منظمة الصحة العالمية ان حوالي بليون شخص في كافة أرجاء العالم لديهم ارتفاع في ضغط الدم، وان مضاعفات ارتفاع ضغط الدم سبب في وفاة 7 ملايين انسان سنويا، أي 13٪ من نسبة الوفيات العالمية. وتشير احصائيات رابطة القلب الامريكية في نشرة هذا العام 2004م إلى أنه يصيب واحدا من بين كل أربعة بالغين. وأنه كلما زاد ضغط الدم الانقباضي 20 مللي متر زئبقي أو الانبساطي 10 مللي متر زئبقي، زادت نسبة الوفيات بمقدار الضعف من أمراض شرايين القلب والدماغ. وان كلفة علاج مرضى ضغط الدم ومضاعفاته تبلغ حوالي 55 بليون دولار سنويا في الولاياتالمتحدة فقط. احصائيات جديرة بالتأمل: كل ما تقدم ربما هو أقل أهمية علاجية مما يلي من الاحصائيات، التي تحتاج إلى تأمل من قبل القارئ الكريم. أولا: تشير الاحصائيات الحديثة في الولاياتالمتحدة وغيرها من دول العالم إلى أن نسبة من هم مصابون بارتفاع ضغط الدم وتم تشخيص حالتهم هم فقط 70٪ أي ان 30٪ لا يعلمون أنهم مصابون بذلك. و60٪ فقط ممن يعلمون أنهم مصابون به يتناولون علاجه أي ان 40٪ لا يتناولونه، ومن بين من يتناولون العلاج تم التحكم بخفض ضغط الدم الى أقل من 140/90 لدى 34٪ فقط، أي ان 66٪ ممن لديهم ارتفاع ضغط الدم ويتناولون علاجه مازال ضغط الدم لديهم فوق 140/90 مللي متر زئبقي رغم مراجعة كثير منهم للطبيب بمعدل 6 مرات سنويا.. وهذه نسب علاجية غير مفيدة للمرضى على الاطلاق للوقاية من مضاعفات ارتفاع ضغط الدم وغير مرضية للأطباء الذين وهبوا حياتهم خدمة للمرضى. وفي هذه النتيجة لا يجب النظر بتوجيه اللوم الى المرضى وحدهم، بل إن هناك احصائيات عالمية تشير الى أن هناك دورا للأطباء فيه أيضا، فلقد ظهرت كثير من الدراسات كدراسة الدكتور «بيرلوتز» عام 1998م والدكتور «هايمن» عام 2000م تشير الى ثلاثة أرباع أطباء العيادات الأولية المشمولين بهذه الدراسات لم يتنبهوا الى أهمية بدء علاج كبار السن ممن لديهم ضغط الدم الانقباضي ما بين 140 و159 مللي متر زئبقي. ثانيا: تزداد عرضة الاصابة بارتفاع الضغط مع تقدم العمر لنصل إلى أن نصف الذين عمرهم يتراوح بين 60 - 69 سنة لديهم ارتفاع ضغط الدم، وثلاثة ارباع من عمرهم فوق 70 سنة، وهو ما ذكره الدكتور «فازان» في بحثه المنشور عام 2002م حول نتائج دراسة «الفرامنغهام» تلك الدراسة الطويلة التي أجريت في الولاياتالمتحدة والتي تستمر منذ منتصف القرن الماضي إلى اليوم، اذ أشار إلى أن هناك احتمالا بنسبة 90٪ لمن عمرهم اليوم ما بين 55 - 65 سنة أن ينشئ لديهم ارتفاع ضغط الدم عند بلوغهم ما فوق الثمانين من العمر. ثالثاً: اضاف الدكتور «فازان أمرا يستحق التأمل من القارئ الكريم، وهو أن الأشخاص الذين ضغط الدم لديهم ما بين 130 و139/85 الى 89 هم عرضة بدرجة أكبر للإصابة بارتفاع ضغط الدم مقارنة بمن لديهم ضغط الدم ما بين 120 الى 129/80 إلى 85 مللي متر زئبقي، وذلك بمعدل الضعف، وهي نسب لم يكن ينتبه اليها الكثير من الأطباء أو الناس الى وقت قريب. رابعاً: ليس هذا فحسب، بل اشار ايضا الى أن هذه النسبة العالية لضغط الدم ضمن ما كان يعد طبيعيا الى فترة وجيزة، تزيد من عرضة الاصابة بأمراض القلب الناجمة عن ضغط الدم المرتفع بنسبة الضعف عما هو الحال لدى من ضغط الدم لديهم أقل من 120/80 الأطباء والمرضى: من هنا يلاحظ القارئ الكريم التباين الذي يبعث على الدهشة بين ما يتجه اليه البحث الطبي وبين واقع نتائج العلاج للمرضى، ففي حين يزداد الأمر دقة لدى الأطباء الباحثين بالتنبه والاهتمام حتى بالمستويات التي لا ينظر اليها على أنها مرتفعة في ضغط الدم وذلك لحماية المرضى من مضاعفاته الضارة، فانه ما زالت نسبة تحقيق النجاح العلاجي في خفض ضغط الدم تراوح مستوى متدن لم يصل إلى 50٪ من المرضى.. تصنيف ضغ الدم الجديد مما تقدم من نتائج الدراسات التي صدرت بعد عام 2000م والتي تنبه الى أن ضغط الدم الانقباضي فوق 120 مللي متر زئبقي، والانبساطي فوق 80 مللي زئبقي تصاحبه مضاعفات لا يمكن اهمال النظر اليها وأخذها بعين الاعتبار، فان اللجنة المشتركة المتقدم ذكرها تبنت في التقرير السابع هذا العام اعتماد تصنيف جديد لدرجات ضغط الدم على النحو التالي: أولا: ضغط الدم الطبيعي: هو ما كان أقل من 120/80. ثانياً: بداية ارتفاع ضغط الدم، هو ما كان بين 120 - 139/ 80 - 89. ثالثاً: ضغط الدم المرتفع: هو ما كان 140/90 وما فوق ذلك. وهذا التصنيف هو المعتمد اليوم لدى أطباء القلب وأطباء الباطنية وأطباء الأسرة والمجتمع، المعنيون بعلاج ارتفاع ضغط الدم بالدرجة الأولى. فلا يقال ان إنسانا ضغط دمه طبيعي ما لم يكن الضغط الانقباضي أقل من 120والضغط الانبساطي أقل من 80 مللي متر زئبقي، اما فوق هذا فيجب الاهتمام به، والاهتمام لا يعني وصف الدواء تلقائيا كما سيأتي. درجة «بداية ارتفاع ضغط الدم»: هذه الدرجة الجديدة في تصنيف معدلات ضغط الدم وعلاج ارتفاعه عبر النظر اليه كتقسيمات ثلاثة، فرضت في الواقع اللجوء إليه نتائج الدراسات الحديثة، تميزا لهذه الأقسام الثلاثة عن بعضها البعض من ثلاثة جوانب: 1 - التشخيص والمتابعة. 2 - بدء العلاج الدوائي وغيره من وسائل العلاج. 3 - اختلاف النظر اليها بحسب الأمراض المصاحبة لها وخاصة ظهور مضاعفات ارتفاع ضغط الدم. والذي يعنينا في هذا الطرح هو ان هذا القسم الجديد ليس حالة مرضية، لكنه تصنيف لفرز الأشخاص الذين هم عرضة أكثر من غيرهم لتطور الأمر لديهم الى حد ارتفاع ضغط الدم بشكل مرضي، فضغط الدم في غالب الأحوال لا يرتفع الى الحد المرضي بين ليلة وضحاها بل يتدرج في الارتفاع، والسعيد من تنبه له وأخذ الحيطة بوقف تطور زيادته او تأخير ذلك، ولذا فان هذا يستلزم اهتمام الأطباء والمرضى به على السواء. ويلفت التقرير أيضا نظر الاطباء والمرضى الى أن ظهور معدل ضغط الدم لدى انسان ما ضمن ما يعرف اليوم «ببداية ارتفاع ضغط الدم» لا يفرض بالضرورة بدء العلاج الدوائي بناء على هذا فقط لكل الناس، أي بناء على قراءات رقمية، بل يفرض بدء اتخاذ وسائل الوقاية ووسائل العلاج غير الدوائي، كانقاص الوزن وممارسة الجهد البدني المنتظم والعناية بالغذاء وتقليل اسباب الضغوط النفسية وغيرها، كل هذا في سبيل منع أو تأخير ظهور ارتفاع ضغط الدم. وفي هذا يقول واضعو التقرير السابع «بداية ارتفاع ضغط الدم ليس تصنيفا مرضيا، بل هو إطار تعريفي للأشخاص الذين هم عرضة بدرجة عالية التنبه اليه، ويجب نصح المرضى بوضوح شديد لبدء ممارسة سلوكيات الحياة الصحية المعدلة لنمط حياتهم، من أجل وقف تطور ارتفاع الضغط الى الحد المرضي او تأخير ذلك، لكن من لديهم مرض السكري او بدء تدهور وظائف الكلى، فان عليهم تناول الدواء ان لم تفلح الوسائل العلاجية الأخرى في انقاص ضغط الدم ما دون 130/80 مللي متر زئبقي، وهذا كلام غاية في الدقة. من هنا تبدو لنا أهمية قياس ضغط الدم بشكل دوري لكل انسان، وهذا ما سنطرقه في المقال القادم حول قياس ضغط الدم وكيفيته السليمة. *استشاري قلب الكبار مركز الأمير سلطان للقلب