اترك الشمسَ خلفَ جبالِ الطفولةِ صفراءَ عند المغيبْ ... وارسم سماءً ملبّدةً بالعصافيرِ .. من تحتِها نخلةٌ خلفَ مئذنةٍ ... واكتب بآخرِ لونٍ لديكَ .. أنا الشاعرُ الطفلُ حدَّ المشيبْ ..! *** يُقال إنني نبتتُ من ريش البحر وبلل الشواطئ ونزهة النخيل على مشارفه، أنقشُ البياض في مناديل الحداد التي يلوّح بها العصر، وأهجسُ بصغاري بعيدًا عن إغواء وعبث المدن التي (مزَّق الطلق احشاءها وتقيح تحت أظافرها الماء كما قال شيخنا الراحل الثبيتي) ... النوافذ المشرعة ممر الهواء، والمدن التي يقيم بها الشعر ليست خالصة لوجهه مطلقاً.. أعلم يقينا أنني لا أخفي شيئاً حين يكون الشعر خاتمتي وكتابي الذي استلمته بيميني.. مشكلتي أنني اعد حتى عواميد الإضاءة في شارعنا ثم أضع سريري على الرصيف وأغفو حين تتولى النجوم حراسة روح بملامح قروية مهما تمدَّنت لا تصعقها الضوضاء ولا تردعها الأحداث ولا تصدمها المدينة..! العفوية في عصر يحسر الظلال تهمة، والصدق ضرب من السذاجة..! وأنا يدي معلقة في جبين السطر.. لا أجيد إلا معاشرة الحنين ومباغتة النشوة، لا شيء أخفيه كي أخافه، تماماً كما أنني لا أخاف شيئاً كي أخفيه، فالكتابة كخطوةٍ لا يعنيها الطريق حينما يتسع لها الى أيِّ جهةٍ يفضي بها، كما انها لا تمَّحي بالرجوع، حين تكون أثرًا أخلد من حياة وأبقى من مصير..! هكذا أفاجئ نفسي بالبوح من دون أن أبوح لها، غالباً تسألني الريح عن جهة المطر، فأتخذ متكئاً في الرمل أستغيث به للعشب بيدين عطيبتين.. وبعد أن يرتوي الرمل من عطش السنوات والحروف يسألني العشب امرأة من زمن الياسمين وفواكه الترف وقافية الراء، كما تسألني أمي امرأة من مدينة الطمأنينة والقصائد الخالدة.. الحقيقة أنثى والدنيا أنثى.. ولأن الحياة أنثى فإن القصيدة كذلك أنثى!.. القصيدة حتى وهي تحمل رائحة الجوهر الإنساني المحترق وتعبر الشوارع آخر الليل بعطرٍ ضوئي باذخ باحثة عن عيونٍ يذبل الليل فيها وأكمامٍ تنتظر الفجر، وعصافيرٍ في نافذةِ عجوزٍ عمياء، وطفلٍ تدثّر بسواد الليل بعد أن سلخت الشمس فروة رأسه وهو يبيع مياه الظهيرة على أثرياء المدينة في شوارعها العابسة، لن تسلم القصيدة من القذف حين تطل عليها النوافذ المعدة لاستراق السمع من أسرار الجيران والأحاديث النائمة، يبحثون في ثوبها عن بقعةٍ لعقت بها في مدينة الخطيئة وعن امرأةٍ مهرها القصيدة..! ليس هناك يقين بشاعرٍ يقول إني أخاف الآه.. ولهذا تدخل مجلس الحضور وقد ارتشفت قطرات قلقها، ومحْوِ تاريخها، وكأس رقصتها، ولا يعنيها حينها الأحذية العارية التي تدهس ظلالها في مجلس الحضور والتلقّي..!.