استأنفت ساحة جامع الفنا حياتها الطبيعية متناسية ألم الجرح العميق الذي خلفه في النفوس اعتداء يوم الخميس الجبان الذي استهدف مقهى "أركانة" وأسقط 17 قتيلا وعشرات الجرحى من جنسيات مختلفة. لقد بدت الساحة الشهيرة، التي صنفتها اليونسكو تراثا عالميا، مساء يوم الجمعة وقد توشحت بزينتها كما اعتادت أن تفعل كلما غربت شمس يوم جديد وهي تستقبل روادها غير آبهة ب "رسالة" التهديد التي أراد منفذو عملية التفجير بعثها إلى المراكشيين. فها هي الساحة من جديد تعج بروادها المعتادين وها هم السياح يقبلون، كما في السابق، على الحلقات ويستمتعون بليل جامع الفنا الذي يرفض الاستسلام إلى السكون لتستمر الحركية في كل أجزاء الساحة إلى ما بعد منتصف الليل.. إن جامع الفنا يتحدى صناع الموت بزرع أسباب الحياة. السياح يستمتعون بدفئ المدينة وطيبة أهلها وأجوائها التراثية .. وتزايد نشاط الحكواتيين ومنشطي الحلقات والباعة قرب مقهى "أركانة" التي سقط طابقها الأول جراء تفجير يوم الخميس القوي، تجمع عدد من السياح الأجانب يلتقطون الصور التذكارية، في حين فضل بعضهم الآخر أن يديورا ظهورهم للمقهى ويتجهوا للاستمتاع بما تمنح ساحة جامع الفنا من متعة تجعل زائر الساحة يسبح بعيدا في عوالم ألف ليلة زمن المدينة القديم. يرفض كريستوفر رينارد من فرنسا وقف إجازته والعودة إلى بلاده بعد حدث الخميس الإرهابي، إنه يقول بأنه بات مرتبطا روحيا بساحة جامع الفنا الشهيرة "ليس هذا الحدث هو ما سينهي علاقتي بجامع الفنا.. أنا اعتدت زيارتها منذ سنوات، وأقضي معظم أوقات إجازتي بمراكش.. أنا أعرفها جيدا وقد عاشرت أهلها وأعرف طيبتهم.. لا أكاد أصدق ما حصل يوم الخميس ولا أفهمه على الإطلاق.. بالنسبة لي، هذا حدث عارض..أنا أعتبر نفسي ابن هذه المدينة". كانت كاثرين تقف بجوار رينارد وهو يدلي بهذا التصريح والابتسامة لم تغادر شفتيها. وبالنسبة إليها فإنها، وإن كانت عكس رينارد تزور مراكش لأول مرة، إلا أنها تؤكد أن نظرتها للمدينة وأهلها لم تتغير.. "أحببت مراكش من خلال ما حكى لي رينارد عنها.. وقد وجدت كل ما ذكر لي صحيحا.. دفئ المدينة وطيبوبة أهلها والأجواء التراثية الرائعة بساحة جامع الفنا". مسيرة شباب 20 فبراير بجامع الفنا الحكواتيون ومنشطو الحلقات والباعة والرواد.. لا يبدو على كل هؤلاء أنهم يترقبون خطرا محدقا، وكأنهم متيقنون أن حدث يوم الخميس استثناء لن يتكرر.. "ما تراه انتصار للحياة على الخوف" يقول "با محمد" أحد أقدم الباعة في ساحة جامع الفنا، ويضيف "لا نأبه بما وقع.. أكيد من فعل هذا لا يمكن أن يكون مغربيا.. على الأقل بروحه.. في هذه الساحة حرص المراكشيون منذ سنين على منح المتعة لروادها سواء أكانوا من أبناء الوطن أو أجانب.. وسنستمر في ذلك". عشية يوم الجمعة، خرج عشرات من العمال المغاربة الذين يشتغلون في قطاع السياحة في مسيرة رمزية بساحة جامع الفنا. كانت الرسالة التي بعثت بها هذه المسيرة الرمزية واضحة غير مشفرة "الحياة لن تتوقف بمراكش". حمل العمال الورود واتجهوا نحو مقهى "أركانة" وقرأوا سورة الفاتحة وغادروا في صمت. وبعد هؤلاء خرج شباب ينتمون إلى حركة "شباب 20 فبراير" التي كانت انخرطت في حركات احتجاجية مطالبة بالتغيير في البلاد. رسالة هؤلاء الشباب كانت مختلفة "نرفض الإرهاب، ونطالب بتقديم المتورطين إلى المحاكمة، لكن لا تتخذوا من الحادث ذريعة للتضييق على الحريات والحق في التظاهر". شباب مغاربة آخرون أسسوا على الفايسبوك صفحة طالبوا فيها بكشف تسجيلات المراقبة الملتقطة من كاميرات منصوبة بساحة جامع الفنا. فبالنسبة إليهم فإن من شأن ذلك أن يكشف حقيقة ما تعرض له مقهى "أركانة" يوم الخميس. ويظل كشف المتورطين عن حادث تفجير "أركانة" مطلبا شعبيا وهدفا للأجهزة الأمنية التي نصبت المتاريس على منافذ مدينة مراكش وبدأت تدقق في هويات الزائرين بحثا عن المجرمين المفترضين. وإذا كانت التحقيقات حسمت في كون الحادث إرهابيا ومدبرا، إلا أنه الى الان لم يتم كشف الجهة التي تقف وراءه وخططت لضرب جامع الفنا القلب النابض لمدينة مراكش. غير أن أصابع الاتهام بدأت تتجه نحو تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، فهذا التنظيم هدد في أكثر من مناسبة بضرب المغرب، إضافة إلى أن أسلوب التفجير، والذي كان عن بعد، هو من الأساليب التي يعتمد عليها هذا التنظيم. لكن أيا كانت الجهة التي تقف وراء الحادث، فلا همّ للمراكشيين إلا أن تأخذ العدالة مجراها ويتم تقديم المتورطين على محاولة "قطع شرايين الحياة" على مدينة مركاش التراثية العتيقة إلى المحاكمة.