من الصعب التنبّؤ بالمصير السياسي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. لكنْ يبدو أنّ الفعاليات المطالبة بإسماع الصوت والمشاركة في الحياة السياسية ستستمر. وازداد الغموض الذي يلفّ مستقبل ليبيا كما أنّ التطوّرات الجارية في سوريا بدأت بتحويل الاهتمام العالمي نحو المشرق العربي. ويتطلب الإصلاح السياسي في البحرين درجة عالية من الحنكة والحذر، بينما يتغيّر اليمن بوتيرة متسارعة. أما الواقعية السياسية التي تطبع السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة، فقد شهدت مؤخراً قدراً من التمييز بين القيَم والمصالح. عدم الاستقرار يمتد شرقاً حتى اللحظة، ظلّ القليل من دول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا محصّناً ضدّ «الثورات العربية». وأصبح الجميع داخل المنطقة وخارجها يتابعون أيام الجمعة باهتمام خاصّ. ويبدو أنّ هذا الاتجاه سيستمرّ في المدى المنظور. وتُمثّل المطالبة بإسماع الصوت والمساءلة والشفافية ومكافحة الفساد أبرز سمات «الثورات العربية». ومع أنه يصعب التنبّؤ بالمصير السياسي لهذه المنطقة، يبدو أنّ الفعاليات المطالبة بإسماع الصوت والمشاركة في الحياة السياسية ستستمر. وحتى تلك الدول التي اعتُبرت في بادئ الأمر أكثر قدرةً على مقاومة رياح التغيير في العالم العربي، أصبحت اليوم أقل مناعةً من أي وقت مضى. وازداد الغموض الذي يلفّ مستقبل ليبيا بسبب استمرار المواجهات الداخلية المسلّحة. ولا بدّ من مراقبة تطورات الجزائر والمغرب والأردن عن كثب خلال الأسابيع القادمة. وعلى خلفية التطوّرات التي شهدتها سوريا خلال الأسبوع الماضي، تعمّق القلق من إمكانية انتقال «الثورات العربية» إلى أشدّ أنظمة المنطقة تحصيناً - بفضل أجهزتها الأمنية القويّة. فقد عُيّنَ وزير الزراعة السوري السابق رئيساً للوزراء وأُسندت إليه مهمّة تشكيل حكومة جديدة. وينبغي الانتظار لرؤية كيف سيتفاعل المجتمع السوري مع الإصلاحات التي تعهّد بشّار الأسد بإدخالها، بما فيها استبدال قانون الطوارئ بقانونٍ لمكافحة الإرهاب ومعالجة مظالم المواطنين الأكراد. وينطوي عدم الاستقرار في المشرق العربي على انعكاسات جيو - سياسية أكبر من انعكاسات عدم الاستقرار في الدول المصدّرة للنفط، مثل ليبيا ودول الخليج العربية. فالتحوّل في المشهد السياسي للمشرق العربي قد يقلّص دور إيران في منطقة الشرق الأوسط ككل. كما أنّ تدهور المشهد السياسي في سوريا قد يُغير ميزان القوى في لبنان. اقتصادات الخليج: ليست محصّنة لم تكن دول الخليج العربية محصّنة ضدّ المطالبة بالإصلاح السياسي والاقتصادي. وبالنسبة لمجتمعات منطقة الخليج، تتمثّل القضية الرئيسية بالشرعية التي لا تزال محل إجماع شعبي شبه كامل، خلافاً للعديد من أنظمة الحكم القائمة في الشرق الأوسط الكبير. فقد تمحورت مطالب المحتجّين في سلطنة عُمان حول تحسين الرواتب والأجور وتوفير فرص عمل جديدة والقضاء على الفساد. واستجابةً للدعوات المطالبة بالقضاء على الفساد، أقال السلطان قابوس اثني عشر وزيراً في الشهر الماضي. وينبغي الانتظار لمعرفة كيف سيُدار التغيير خلال الأسابيع القادمة لأنّ السلطان قابوس تعهّد بإجراء تعديلات دستورية. وحتى الآن، تركت الاحتجاجات في سلطة عمان آثاراً طفيفة على الاقتصاد المحلي، خلافاً لحالة البحرين. لكنّ أيّ اضطرابات كبيرة وأعمال عنف واسعة في المستقبل ستهزّ صورة عُمان وقد تُلحق أضراراً جسيمة بالقطاع السياحي المحلي. ونظراً إلى عودة الاستقرار إلى سلطة عُمان، أبقينا على مستوى توقعاتنا لمعدّل نمو إجمالي ناتجها المحلي في العام الجاري عند 4,1%. وفي اليمن، يتعرّض الرئيس لضغوط شديدة. كما أنّ سعر صرف العملة المحلية سجّل مؤخراً تراجعاً حادّاً بسبب الإقبال الشديد على تحويل المدّخرات إلى الدولار الأمريكي. وسيظل الوضع في اليمن غير مستقر في المدى المنظور لكنّنا نستبعد أنْ يكون لهذا الوضع أي انعكاسات سلبية على الاستقرار في المملكة العربية السعودية المجاورة. كما نستبعد حدوث أي هجوم على منشآت النفط السعودية من جانب نشطاء تنظيم القاعدة الموجودين في اليمن. وكان لنا توقعات مماثلة إبّان غزو العراق في عام 2003، حيث تمكّنت المملكة من إزالة انعكاسات هذا الغزو على استقرارها بصورة تدريجية. وخلال السنوات الأخيرة، عززت المملكة حماية منشآتها الإستراتيجية كافّة، بما فيها منشآت النفط. وعلى مدى تاريخ المملكة، لم ينجح أي اعتداء إرهابي في إلحاق أضرار جسيمة بالبنية الأساسية لقطاعها النفطي أو في تعطيل إنتاجها النفطي. وحالياً، تبلغ قدرة المملكة الاحتياطية على إنتاج النفط حوالي 3,5 ملايين برميل يومياً، ما يسمح لها بتعويض أيّ نقص في إمدادات سوق النفط العالمية. المملكة العربية السعودية مُحصّنة إنّ توقعات الاقتصاد الكلي السعودي قوية وتستند إلى ارتفاع إنتاج وأسعار النفط، بالإضافة إلى الإنفاق العام الضخم. فقد رفعنا مستوى توقّعاتنا لمعدّل نمو اقتصاد المملكة من 4,2% إلى 5,5%. ويرجع السبب الرئيسي في ذلك إلى النمو غير المتوقع لعائدات النفط وإجمالي الناتج المحلي للقطاع العام. إذ أعلن الملك عبد الله مؤخّراً عن مشاريع دعم قُدّرت قيمتها الكلية بنحو 130 مليار دولار واشتملت على إجراءات عديدة لدعم المواطنين، بالإضافة إلى بناء نصف مليون وحدة سكنية. لكنْ ينبغي على اهتمام الحكومة السعودية برفع الإنتاجية أنْ يكون أكبر من اهتمامها بالتعزيز المؤقت لقدرة المواطنين على الإنفاق. وستواصل بقيّة اقتصادات منطقة الخليج انتعاشها بفضل ارتفاع عائدات صادراتها النفطية. ويبدو أنّ الاضطرابات السياسية في البحرين انحسرت وباتت أقلّ تعطيلاً للنشاط الاقتصادي في الوقت الراهن. كما تسارعت وتيرة عودة البحرين إلى وضعها الطبيعي بفضل دعم دول مجلس التعاون لها. مع ذلك، خفّضنا مستوى توقّعاتنا لمعدّل نمو إجمالي الناتج المحلي للبحرين في عام 2011، من 4,1% سابقاً إلى 2% حالياً. وستواصل دول مجلس التعاون الخليجي دعمها للبحرين جغرافياً واستراتيجياً في حال تعرّضها لأي تهديد كبير. ويتطلب الإصلاح السياسي المدروس في البحرين درجة عالية من الحنكة والحذر خلال الأسابيع القليلة القادمة. أما بخصوص الكويت، فإن الاستقالة الأخيرة لمجلس الوزراء لم تكن مفاجئة نظراً إلى الدور الفاعل للبرلمان الكويتي وتأخّر تنفيذ عدد من الإصلاحات الاقتصادية المهمة خلال السنوات القليلة الماضية. ولئن تأثّرت السوق الكويتية المحلية بهذه المشكلات السياسية، إلا أنّ قدرة الكويت على تصدير النفط لم تضعُف. وكما هو الحال بالنسبة للمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، ستزداد أيضاً العائدات المتوقعة لصادرات النفط الكويتي. الواقعية السياسية الأمريكية ازداد وضوح السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة بعض الشيء بالمقارنة مع بداية «الثورات العربية». فقد اتسمت الواقعية السياسية التي تطبع السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط بقدر من التمييز بين القيَم والمصالح. وتُعدُّ مصر دولةً ذات أهمية إستراتيجية خاصة بالنسبة للولايات المتحدة بفضل قربها من إسرائيل وإبرامها معاهدة سلام معها. وفي الخليج، تُعدُّ المملكة العربية السعودية أهم شريك استراتيجي للولايات المتحدة بسبب دورها الفريد في موازنة سوق النفط العالمية (وتوفّر المملكة 12% من واردات أمريكا من النفط)، بالإضافة إلى أهميّتها الجيو- سياسية المرتبطة بقربها من إيران. ونظراً إلى حجم التزاماتها العسكرية في العراق وأفغانستان، لن تُطلق الولايات المتّحدة أي حملة عسكرية جديدة غير محدودة الأجل. وفي حال دخول الولاياتالمتحدة في مواجهة عسكرية مع إيران في منطقة الخليج، ستكون عزيمتها العسكرية على المحكّ لأنّ خسائر مثل هذه المواجهة ستكون جسيمة. * مدير عام وكبير الخبراء الاقتصاديين في البنك السعودي الفرنسي