بعد جميع النظريات العلمية والوضعية في عصر الثورة العلمية والصناعية التي كانت تحصر الوعي الإنساني في بعده المادي وحدود حواسه الخمس أو ماتستطيع تلك الحواس تفسيره أو عقله , وبعد جميع صيحات الظفر والغرور العلمي ... يبدو أن البشرية لم تستطع أن تكمل الرحلة وحيدة ، فوحشة الطريق المادي المؤدية إلى الفناء لاسيما بعد حربين عالميتين مرعبتين , جعلت الإنسانية تحتاج إلى أجوبة أكثر عمقا وأقل قسوة وثقلا يملأ وحشة الفراغ الروحي , فبدأ يظهر في الستينيات والسبعينيات داخل الثقافات الغربية المركزية اهتمام بل احتفاء بالثقافات الفرعية مكونا تياراً متنامياًً(New Age) تحت مسمى العصر الجديد.. وفي الثمانينيات أسهم الإعلام الأمريكي القائم على أذرع إعلامية متعددة في ذيوع وانتشار هذا التيار أو التوجه, بجميع المحتوى الروحي والفلسفي له المستمد والمختزل للعديد من حضارات وثقافات كان المركزي المهيمن يسميها ثقافة الهامش , وعلى هامش هذا الانتشار ظهر كم هائل من المؤلفات ابتداء بمؤلفات( ليندا غودمان حول الأبراج والطوالع، وانتهاء بكتاب (السر) الذي لاقى رواجا على مستوى عالمي بفضل وسائل الإعلام ) .. هذا التيار أو التوجه بدأ يظهر بداية على مستوى الممارسة الروحية عبر فصول اليوجا والتأمل مع محاولة الاتحاد والتواصل مع الروح الكونية حيث يتبدى في التأكيد هنا تأثير الفلسفة الشرقية الصوفية الحلولية في تلك الممارسات . أيضا اهتم هذا التيار بالعلاج الجسدي والروحي أو الطب البديل الذي يسعى للشفاء المتكامل عبر عدد من الطقوس المختلفة مثل الفنغ شوي، والعلاج الكريستالي والعلاج بالطاقة، ولعل البعض وجد به مخرجا أمام فشل الطب المخبري العلمي في التصدي والقضاء على جميع أمراض وأوبئة العصر , وهم يرون أن كل حضارة تظهر ومعها أمراضها، فحضارة التقدم التقني والخمول تنتج بشكل مضاد أمراض العصر الناتجة عن الرفاه وقلة الحركة . لذا تحاول تلك الحركة أن تستلهم من الثقافات الشرقية القديمة ولاسيما الصينية والهندية الكثير من أبعادها الفلسفية لاسيما فيما يتعلق بمواجهة الأمراض؛ حيث يرى الصينيون أن الصحة الانسانية تتحقق عبر انسجام بين الروح والجسد، والطاقات الداخلة والخارجة من الجسد , أيضا يرون أهمية استنطاق الروح الأمومية في الكون مع أهمية تأصيل علاقة متينة وودودة مع (أمنا الأرض) أو البيئة لأن أي ممارسة متعسفة وجشعة مع الطبيعة من شأنها أن تجلب غضب الأرض الذي يتبدى عبر الكوارث والزلازل والفيضانات والتصحر، لذا لابد أن تبقى دائرة التواصل وقنواته بين الانسان وبيئته مفتوحة ومتصلة في علاقة دائرية ودودة . ولعل فيلم (أفتار) الشهير للمخرج جيمس كاميرون استمد الكثير من تفاصيله المتعلقة بالعلاقة الايجابية بين المخلوقات ومحيطها من أدبيات هذا التيار . وعلى الرغم من نظرة طبقة الانتلجنسيا الفلسفية والأكاديميات الفكرية لهذا التيار بنوع من الدونية نتيجة كونها تجميعية يغيب عنها الأساس الفلسفي العميق , إلا أنها باتت نوعا من الصرعة أو الموضة الشعبية , ويستجيرون أمام هذه التهمة والنظرة الفوقية بأفكار ونظريات عالم النفس الشهير كارل يونغ على اعتبار أن نظريته حول ( اللاوعي الجمعي) تحتوي ابعادا روحية شتى , إضافة إلى فلسفته حول النشوء والارتقاء المستمر للانسان بدافعية من اللاوعي الجمعي، والرفيق الروحي الذي من الممكن أن يتصل به المريدون عبر الأحلام والتأمل والحدس . في النهاية نجد أن الفكرة المحورية التي تدور حولها هذا الحركة هي المهمة الكبرى ؛ حيث يرون أن كل ميسر ومخلوق لمهمة يندب من أجلها، وعليه أن يقوم بها في هذه الحياة على أكمل وجه. هذه التيار أو المدرسة انتشر على نطاق كبير في أصقاع العالم وبتنا نراه في الكثير من المؤلفات والنتاج الإبداعي , ولاسيما مع الكتب التي تعمل في نطاق مايسمى بالتطوير الذاتي , ولعل موجة اهتمامنا الحالي بالطب البديل والمترجمات التي تصلنا من كتب تطوير الذات (على اعتبارنا مستهلكين للثقافة ولسنا صانعين لها ) هي جزء يسير من موجة ثقافية عارمة انتشرت عالميا منذ الستينيات..