هكذا فجأة حُلّتْ قضايا البطالة كما تعتقد بعض الأجهزة الاقتصادية لدينا، في مشهدٍ كأنه يقول "تدلل" أيها العاطل عن العمل؛ هل تريد وظيفة؟ ها هي بين يديك، هل تريد تأسيس مشروع صغير؟ ها هو قرضه الميسّر بين يديك، هل الأمر بهذه الصورة حقيقي كما تتصوره تلك الأجهزة المعنية؟ وإذا كان كذلك فلماذا تأخّر طوال عقدين من الزمن مضيا؟! لماذا وصلنا إلى مرحلة كشفتْ حقائقها عن أكثر من مليوني عاطل عن العمل من السعوديين والسعوديات، فيما كانت إحصاءات كل من وزارتي العمل والاقتصاد والتخطيط تقول إنهم لا يتجاوزون نصف مليون؟ كيف ظهرتْ فجأة تلك الحلول "السحرية"؟! إن وضعنا أصابعنا على مفردات ومكونات خطط وبرامج وسياسات التنمية أولاً، وثانياً إن وضعناها على إجراءات وآليات تنفيذها، فإننا سنكتشف يقيناً أنها لم ولن تستطيع فعل ذلك أبداً! بل على العكس تماماً لقد أفضتْ في حقيقة الأمر إلى فرضها لوقائع مزعجة للاقتصاد الوطني؛ لعل من أبرزها: (1) ارتفاع معدلات الاستقدام من الخارج، إلى أن وصلتْ لأكثر من 8 ملايين عامل مقيم. (2) ارتفاع معدلات التسرّب المالي والاقتصادي للخارج تجاوزت مؤخراً عبر الأنظمة المصرفية سقف 117 مليار ريال، وإن أضفتْ ما تم تحويله عبر القنوات الموازية لها فلا تتفاجأ إذا وجدتها قد تجاوزت 22 في المئة من حجم الاقتصاد الوطني سنوياً. (3) ارتفاع حجم وعدد المشاريع التي تُدار من رأس هرمها إلى قاع قاعدتها من قِبل المقيمين، ومن اللافتْ أن جزءاً كبيراً منها يقع تحت مظلة "اقتصاد الظل"، أي المنطقة المظلمة وغير المرئية من قبل تلك الأجهزة، سواءً تحت مخالفة "التستر التجاري"، أو عبر مؤسسات وشركات "التمثيل التجاري"، أو في ممارسة أنشطة تجارية وخدماتية وصناعية تتمتع بمظلة نظام الاستثمار الأجنبي. (4) انخفاض معدلات امتصاص مخرجات التعليم العام والفني والعالي من السعوديين والسعوديات، بصورةٍ أفضتْ فعلياً إلى عاطلين عن العمل تجاوز عددهم 2 مليون عاطل، وليس 0.5 مليون عاطل كما كانتْ تعتقد تلك الأجهزة المعنية. (5) إن توظيف جزءٍ كبير ممن قبِل بهم القطاع الخاص المسيطر عليه من العمالة الوافدة؛ لم يكن أكثر من "تلاعب" أو "التفاف" على معدلات السعودة المفروضة نظامياً، ولهذا لو بحثت أو توغلت أكثر فيما وراء نسبة سعودة الوظائف لدى إحدى الشركات التي تزعم أنها تجاوزت 50 في المئة على سبيل المثال، ستكتشف أن حصتها النسبية من الأجور والرواتب قد لا تتجاوز 2 أو 3 في المئة من إجمالي الأجور! كأنها في الحقيقة ليست إلا "تكلفة" إسكات مراقبي وزارة العمل! ولهذا لم يكن مستغرباً على الإطلاق أن وجدنا شريحة كبيرة من العمالة المواطنة تقبع أجورها ومرتباتها تحت سقف 1000 ريال، وكم كان حجم الصدمة كبيراً حينما صدرتْ التوجيهات السامية بتحديد الحد الأدنى للأجور عند 3000 ريال، ولكن في ظل "جمود" السياسات والبرامج والآليات التنموية؛ فليس مستبعداً أن تجد تلك الشركات حلولاً "ملتوية" لتجاوز هذه المفاجأة غير المحسوبة. (6) البيئة الاستثمارية المجدبة تماماً أمام عموم المشاريع المتوسطة والصغيرة، تجد فيها الشاب أو الفتاة يخوضان غمار تجاربهما التجارية والخدماتية والصناعية الطموحة، سرعان ما تجدها وقد "هوت" هالكةً بعد عام أو عامين من بدء نشاطها، وهي النتيجة الحتمية والطبيعية التي كانت تنتظرها لغياب أبسط وسائل وإجراءات الدعم والتمويل، ولو أنها وجدتْ 1 في المئة مما وجدته مشاريع الاستثمار الأجنبي، أو 1 في الألف من "الحظوة" و "الاحتفاء" الذي وجدته ديناصورات المشاريع من الشركات "المحصنة" من أي إجراءات رقابية، لكان لتلك المشاريع الصغيرة شأناً آخر. هذا فقط غيض من فيض، وحتى نكون جادّين فعلاً يا أجهزتنا الاقتصادية والمالية ليس فقط في مواجهة مشكلة البطالة، بل حتى تجاه الفقر وانخفاض الدخل، والتشوهات التي تعاني منها بيئة الاستثمار، وبيئة عمل القطاع الخاص، وبيئة سوق العمل، فلا بد من المواجهة الفعلية والجادة للإفرازات السلبية والخطيرة الست المذكوة أعلاه على أقل تقدير، وحينها يمكن الحصول على بعضٍ من "الدلال" في ثنايا إجابة أيّ من السؤالين: هل تريد وظيفة؟ أم تأسيس مشروع؟. *عضو جمعية الاقتصاد السعودية