ارتسمت للرحالة والشاعر الانجليزي "شارلز داوتي" المولود في عام 1843 والمتوفّى في عام 1926 في رحلاته إلى الصحراء العربية صورة مسيحيّ متصلّب يلوذ بنصوص الكتاب المقدس في ضبط علاقاته بالآخرين، فأحكامه التوراتية تعبّر عن نفسها بلغة متكلّفة، ويبدو متجهّما وقد فارق المرح نفسه إلى الأبد، وعلى عكس دلالة الاسم العربي الذي انتحله، وهو "خليل" لم يفلح في أن يكون خلّا لأحد طوال مكوثه في الأرض العربية، إنما كان مسرفا في سوء الظن، وريبته بمن حوله لا تنضب، وبدل أن ينقّب في تضاريس الأرض التي اختصّ بها أفرط في التنقيب في داخل نفوس العرب عامة، والبدو بخاصة، بطريقة أقرب ما تكون إلى التحقّق من مساوئهم، بما يوافق تصوّراته المسبقة عنهم، وبدل أن يصف جماعات بشرية مغايرة له في المعتقد والعلاقات راح يهجو بنثر متعجرف استعاره في معظمه من أسلوب الترجمة الانجليزية للكتاب المقدّس في عهد الملك البريطاني جيمس الأول، وهي لغة فيها من التمحّل أضعاف ما فيها من السلاسة، فتفخيمها مفتعل، وجملها مستعارة من المعايير الأسلوبية المتصلة ببواكير اعتماد الانجليزية لغة في التعبير الأدبي، ناهيك عن أنها بالغت بالتفاصح في حضرة النصوص المقدسة، فكان أن كتب حذلقة مركّبة من ضغائن نفسية ومجازات توراتية، ولعله انغمس في كراهية مستغربة، وتخلّى عن الحس السليم في تقدير الآخرين؛ فما يعيب بعض الرحّالة، عدم قدرتهم على الصفح، وشلّ الرغبة في الغفران، وإعادة إنتاج الإهانات الفردية باعتبارها خصومات عقائدية أو عرقية، فيصبح الاختلاف خلافا تؤسّس له اعتبارات قصيرة النظر. بوسعنا التأكيد على أن الانحراف في سلوك أفراد من أهل البادية شائن، ومستهجن، وغير مقبول، إنما لا ينبغي تعميمه على البدو قاطبة، وبالمثل لا يجوز اعتبار داوتي نموذجا للرحّالة أجمعين، فهو استثناء في مجتمعهم المتسامح، كونه ضخّم الصغائر فارتقى بها إلى رتبة الطبائع الثابتة، والمساوئ التي لا تغتفر، ولم يتغاض عمّا تعثّر به معظم أسلافه، فكان ضنينا في مشاعره، وقاسيا في أحكامه، فارتسمت له صورة الرحّالة المغمور بالامتعاض، والعائم على سراب من الازدراء، فكاد يصاب بجنون الارتياب من الآخرين جرّاء العدائية التي ظهرت له في قلب الصحراء، فلم يفلح في تذليلها بالتواصل ومدّ جسور الثقة، إنما لم يتورّع عن إذكاء فتيلها، فكان أن تفشّى اليأس في نفسه، وحيثما اتجه كان يردّ منظورا إليه في كثير من الأحيان باعتباره خادشا للمعتقد الديني الراسخ، فراجت عن أخبار مزعجة جعلت الترحيب به ينقلب عزوفا، فلطالما لازم السخطُ الكراهيةَ حيثما أفرد الغريب نفسه عن الجماعة، وانكفأ على ذاته متوهما بأن أخلاقياته التي حملها معه لها الأفضلية دوما في أرض الآخرين. وفي جوّ مسكون بسوء من تفاهم عقائدي يصبح وجود الغريب خطرا عليه وعلى غيره. شغف داوتي بالأسلوب المنمّق للحقبة الإلزابيثية في الأدب الانجليزي خلال القرن السادس عشر التي عرفت شكسبير، وترجمة الملاحم اليونانية والرومانية، وشاح بوجهه عن التطورات الكبيرة التي عرفها النثر الانجليزي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بعد انحسار المهيمنات الأسلوبية الشائعة في تلك الفترة البعيدة، فتسّرب إلى رحلته سيل من الألفاظ المستغربة، والجمل المنفرة، وبالإجمال فمحاولته كانت عقيمة لإحياء أساليب جرى إهمالها من قبل كتاب العصور اللاحقة، وبذلك كان جهده مناظرا لما قام به أدباء الإحياء العرب في القرن التاسع عشر في محاكاتهم الآداب القديمة، فقد توهّم داوتي بمحاولته بعث التقاليد الكلاسيكية للانجليزية أنه يحامي عن اللغة القومية، وينقيها من الفساد الذي طالها من كتّاب الحقبة الفيكتورية ممن لم يراعوا معاييرها الجليلة. فلاذ بالترجمة الانجليزية للكتاب المقدس، ونهل من معجمها ما غصّ به كتابه "رحلات في الصحراء العربية". ولترجمة الكتاب المقدّس المنسوبة إلى الملك جيمس الأول تاريخ نشأة يستحسن المرور عليه مادامت أصبحت موردا لداوتي في التعبير والتفكير في رحلاته الضخمة وأشعاره الملحمية، وقد جرى تقريظ أسلوبه لالتزامه بمعاييرها، وكأن محاكاة الأسلوب القديم مأثرة تستحق التقدير في تصوره، ففي عام 1604 انعقد محفل ديني موسّع أوصى بترجمة الكتاب المقدس إلى الانجليزية، وأوصى بتشكيل لجنة عهد إليها بالأمر، فواظبت على ذلك لأكثر من خمس سنين، وحينما فرغت من عملها عرضت الترجمة على الملك جيمس الأول، الذي لم يتردد في دمغها بخاتمه، فطبعت في عام1611. وفيها ارتسمت الظلال الكاملة للانجليزية المتفاصحة، ولكن بمرور الزمن، وحينما طوّرت الانجليزية نفسها في القرون اللاحقة، أصبحت تلك الترجمة موضوعا لاستياء ما برح يتوالى منذ ذلك العهد إلى الآن، فكثير من أشكال التعبير فيها أمست مهجورة، وترك استعمال بعض الضمائر، وجرى التخلّي عن بعض الأفعال المتداولة فيها، وغيّرت دلالة كثير من الكلمات واكتسبت معاني مختلفة عما كانت عليه في القرن السادس عشر. ولئن كانت تلك الصيغ تتمتع بالدقة المناسبة لحمل المضامين المقدسة فترحل بها من العبرية إلى الإنجليزية، إلا أنها لم تعد كذلك في العصر الحديث، فكثير منها مبهم، ويجهله القارئ، فلا غرابة أن تتخطى الانجليزية الحديثة كثيرا من ذلك فيظل محفوظا في المعاجم الدلالية للألفاظ، ومع ذلك فقد تعمّد داوتي أن ينتمي للغة القرون الخالية، وشاح بوجهه عما عرفته لغة قومه من تطور في الأزمنة الحديثة، فكادت أن تقطع الصلة بما كانت عليها في عهد الملك جيمس، إذ تكرّس نوع من الانفصال عن لغة شكسبير التي تكاد تكون غير مفهومة لدى القارئ الانجليزي المعاصر مما لزم تحديث النصوص بلغة معاصرة أو توضيح المتروك منها، وطال ذلك، بين ما طال، ترجمة الملك جيمس للأناجيل فتعرضت للتنقيح بما جعلها أكثر أمانة في التعبير عن المقاصد الإلهية، وسعى المنقّحون إلى تيسير كثير من الصيغ بأساليب أبلغ في التعبير عما كان عليه أمر الترجمة القديمة، ومع كل ذلك فقد صمّ داوتي إذنيه، ولم ير إلا ما اعتبره مجدا عريقا من أمجاد الكتابة الإمبراطورية، ولكي يبرأ الكاتب من ضلال الحداثة فلابد له من عودة إلى أصول طواها التاريخ. قام داوتي برحلته في النصف الثاني من سبعينيات القرن التاسع عشر، لكن نشرها تأخر إلى عام 1888 ولم تلفت انتباه أحد، فقد كانت ضخمة جدا بنحو ستمائة ألف كلمة، وبمجلّدين كبيرين منضّدين بحروف صغيرة عجز المتخصصون عن الاطلاع عليها، فركنت في خزانات الكتب دونما اهتمام يذكر، وأسهم في ذلك الاهمال لغتها الملتوية وتفاصيلها المملّة. ولولا التقريظ الذي تفضل به عليها "لورنس العرب" في العقد الثاني من القرن العشرين لبقيت طيّ النسيان، لكن اهتمام لورنس بها لا يعود إلى قيمتها الأدبية، أو لغتها التوراتية، إنما لأنه رأى فيها "أول وأغنى رحلة تتطرّق إلى العرب في الصحراء" ما جعلها، بالنسبة له، صالحة أن "تستخدم كدليل إرشاد عسكري للحملات البريطانية ضد الأتراك إبان الحرب العالمية الأولى". وعلى هذا فإن الحروب الاستعمارية للإمبراطورية بعثت الاهتمام برحلة استطرادية عزف عنها أهلها، وصارت، فيما بعد، محل اهتمام العسكريين من قادة الفرق البريطانية، وعيونهم الذين كانوا يجوبون ديار العرب لمعرفة الكيفية التي يحكمون عليها سيطرتهم، فيا له من مصير قاتم لكتب تكمن قيمتها في مدّ الجواسيس بما يحتاجون إليه. لكن من المستبعد أن يكون للجنرالات وأعوانهم وقت للغوص في تفاصيل رحلة مترهلة كتبت بلغة يصعب عليهم فكّ مغاليقها، فكان أن جرى الاتفاق على إلغاء ثلاثة أرباعها، فاختزلت إلى نص متقطّع، يكاد لا يعطي صورة وافية عن موضوعه، فالمحذوفات الكثيرة التي اقتلعت حملت معها كثيرا مما احتوته النسخة الأصلية الكاملة، وسوء التحرير أفقد الرحلة ترابطها، فانتهت إلى مشاهد متناثرة لا تكاد تكشف على وجه الدقة المسار الذي اتخذه صاحبها إلا حينما تُعرض على معلومات حديثة تخصّ جزيرة العرب، ومع ذلك فقد كشفت الموقف الفكري والديني واللغوي لصاحبها. بدأ داوتي رحلاته في جنوب أوروبا، فزار إسبانيا، ثم إيطاليا، وبعد أن زار اليونان، عبر البحر المتوسط إلى مصر في عام 1875، وشأن كثير من الرحالة الغربيين الذين يهتدون بوقائع الكتاب المقدس، ومسارات أنبياء بني إسرائيل، كان لابد من زيارة سيناء، وتصفّح وهادها وجبالها، ومنها اتجه إلى مدينة "البتراء"، وحالما انتهى من تطوافه فيها حتى اتجه إلى "مدائن صالح" راغبا في استنساخ النقوش على الأضرحة الصخرية، وبدل أن يقفل راجعا إلى الشام مع قافلة للحجيج قادمة من الحجاز، انزلق برفقة بعض القبائل البدوية إلى عمق الصحراء، فزار "تيماء" ومنها توجّه إلى "حائل" ثم "خيبر" لكن حاكمها طرده، وما قبل أن يمضي في رحلته إلى الجنوب، فقفل راجعا إلى "حائل" وفيها لم يرحب به أحد هذه المرّة، فتوجّه إلى "بريدة" ثم" عنيزة" فلاقى من مشاق النبذ والإزراء بسبب عجرفته الدينية والشخصية ما جعله يهرب باتجاه الطائف، ثم وصل جدة في صيف عام 1878. وحينما عاد إلى بلاده كان مجروح الكبرياء، فقد تعرض لإذلال لأنه أفرد نفسه عن الجماعات التي ارتحل إليها، وما لبث أن جعل من كتابه وسيلة خدش لأهل الصحراء الذين وصفهم بالمكر والخداع، وفشل في اقتراح تسوية يُقبل فيها كغريب بينهم مادام كان يصرّح بما يخالف معتقداتهم، ويطعن في أخلاقياتهم، فركّب لهم صورا مستكرهة أسهمت في تعميق الفجوة القائمة بين المجتمعات الشرقية والغربية. ولئن زعم داوتي الدقة في وصف البلاد التي زارها إلا أن نظرته القاتمة لأهلها حجبت عنه كثيرا مما كان بحاجة إليه، فكأنه رحل إلى ربوعهم دون أن يراهم، أما وأن الإيمان الكنسي كان مرشدا له فقد ظهر البدو متحلّلين يعومون على بدائية مقيتة، فجاشت نفسه الضيقة بموجات متوترة من الغضب الأعمى عليهم، ولم يخف كراهية راسخة طورتها لغة مستعارة من ماض بعيد، فكأنه عاش في عالم لا يفتأ ينأى عن إيقاعه سواء كان ذلك في وطنه أو في أوطان الآخرين، ولم يحدث أن جنى أحد ثمرة طيبة من ذلك، فالإنصات لروح العصر هو سرّ المعاصرة، وما كان يجوز له أن يتعمد قطيعة قائمة على الإيمان الديني القويم والذوق الأدبي المهجور، إذ مابرح سخاؤه الديني يتصاعد في قلب البادية متأملا في فرضيات لاهوتية يظن بها إحقاق الحق نافيا عن نفسه الخطأ بلغة عصر النهضة، وبالإجمال فقد جانب داوتي التقاليد الموروثة التي هذبها الرحالة عبر العصور، وامتثل لروح استشراقية معتمة لم تكن قادرة على ارتياد موضوعها وفهمه، إنما اصطنعته في المخيال العام وجعلت من الشرقيين موضوعا له، فهي لا تتخطى الحدود وصولا إليه إنما تستحضره وتخضعه لها، والحال هذه، فالعبور إلى الآخر يقتضي تضحية كبيرة ما كان داوتي متمكّنا منها، وبعد عشر سنوات على رحلته اعتكف يدوّن وصفا متعثرا لعبوره أرض الآخرين، فاستدعاهم إلى مخيلته التوراتية، ونسج حكاية مسطحة تقرب من "كتب المسالك والممالك" في التراث العربي سوى أنه أغدق على أهلها بالذم والقدم ما طعن في نزاهته وموضوعيته.