المفكر الأمريكي الشهير فرانسيس فوكوياما بدأ يجتذب الأضواء قبل صدور كتابه الجديد " أصول النظام السياسي " المقرر أن يطرح في الأسواق في 12 أبريل القادم . ولكن بحسب تقرير نشرته مؤخرا جريدة نيويورك تايمز فإن عددا من المفكرين السياسيين ، الذين تسنت لهم فرصة قراءة الكتاب ، عدوه كتابا عظيما وسيسجل نفسه في قائمة الكتب الكلاسيكية الخالدة التي يجب قراءتها لفهم تحولات عالم اليوم . فوكوياما الذي بدأ بإلقاء بعض المحاضرات التي تشرح أفكاره الرئيسية في الكتاب قد أصبح من أشهر الوجوه الفكرية في العالم بعد نشره كتاب " نهاية التاريخ والإنسان الأخير" الذي جادل فيه أن النظام الليبرالي الديموقراطي سيكون الفصل الأخير في كتاب الأنظمة السياسية الاقتصادية التي مر بها التاريخ الإنساني . وعلى الرغم من أن كتابه أثار عاصفة من الردود لا زالت مستمرة فإنه لا يزال ثابتاً على موقفه الذي يقول إنه فهم في أحيان كثيرة بشكل خاطئ . فوكوياما لم يكن – بحسب تقرير الجريدة – من نوعية الكتاب الذين يتلاشون تحت تأثير الوهج الكبير لنجاح أحد كتبهم بل على العكس من ذلك . فقد أصدر بعد ذلك عددا من الكتب الهامة مثل كتاب " الثقة " عام وكتاب " مستقبلنا مابعد البشري" . ولكن أكثر ما أثار الجدل هو توقيعه، بعد أحداث 11 سبتمبر، مع عدد من الكتاب على رسالة تطالب الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش بإسقاط نظام الرئيس العراقي صدام حسين . ولكن بعد هذا الدعم لحرب العراق تراجع فوكوياما عن تأييده للحرب مهاجما بضراوة إدارة بوش وذلك عبر كتاب كامل بعنوان " أمريكا على مفترق طرق". وجه فوكوياما في الكتاب نقدا شديدا لبوش وإدارته متهما إياها بتشويه أفكار المحافظين الجدد الأصلية معتبرا أن تشيني ورامسفيلد اعتمدا على أفكار لا يعرف فعلا ما هو مصدرها. وفي الانتخابات الاخيرة دعم فوكوياما وصول أباوما إلى الرئاسة قائلا إن الجمهوريين لا يستحقون المكافأة على الفشل الذي تسببوا فيه. الآن يأتي كتاب فوكوياما الجديد ليحاول أن يفهم تطور النظم السياسية والاجتماعية عائدا- كما هي العادة في طريقته العميقة البانورامية في التحليل- آلاف السنوات للخلف بهدف تتبع الجذور التاريخية لعالمنا اليوم . على عكس المحالاوت القديمة التي تنزع إلى تفسير التحولات لسبب واحد يتناول الكتاب قضايا معقدة مثل الدين والنزاع للقتال والسلوكيات الاجتماعية. يعتبر فوكوياما أول شكل حقيقي للدولة بدأ في الصين في عام 223 قبل الميلاد . ولكن قبل ذلك كان هناك تحولات عديدة . في بداية نشوء المجتمعات الإنسانية ، كان هناك التجمعات البشرية التي ترتبط مع بعضها بهدف الصيد . بدأ بعد ذلك تشكل النظام القبلي الذي اضطرت هذه المجموعات لدخوله لكي تحمي نفسها من المجموعات الأخرى التي تحولت إلى قبائل وباتت مؤهلة لتوفير عدد أكبر من المقاتلين. من هنا بدأت بزوغ الأديان القديمة التي تهدف إلى توحيد القبيلة عبر عبادة أحد الأسلاف . ولأن القبائل مهددة بالتمزق في حال موت قائدها ، بالإضافة إلى عدم استقرارها الكافي فقد تم التحول إلى نظام الدولة التي توفر لهم كل ذلك مقابل أن تنزع منهم حريتهم التي كانوا يتمتعون بها في النظام القبلي . وهناك سبب آخر مهم وهو القوة القتالية الكبيرة التي يملكها النظام الجديد التي لم يعد بمقدور القبيلة إلا الاستسلام لها . يقول فوكوياما إن النظام القبلي الذي مر بكل المجتمعات تحول إلى النظام الإقطاعي في أوروبا . الفلاحون يتحلقون حول النبيل الإقطاعي حتى يوفر لهم الحماية، ولكن هذا الإقطاعي القوي تحول إلى عقبة في وجه الانظمة التي لم تتحول إلى انظمة ديكتاتورية ، كما في الصين مثلا ، بسبب عدم قدرتها على هزيمته بل اضطرت للقيام بتسوية معه . وفي الواقع أن رفض الإقطاعيين في فرنسا دفع الضرائب جعل عبئها الثقيل يقع على الفلاحين الفقراء وحدهم الأمر الذي لم يعد محتملا فأدى إلى اندلاع الثورة الفرنسية . يشرح المؤلف أن نظام الدولة الحديث الذي نعرف الآن بدأ بالصين ولكن هذه الدولة سلكت خطا استبداديا ، الأمر الذي لم يكن عليه الحال في أوروبا التي تطورت فيها فكرة غريبة وجديدة هي حكم القانون الذي يجب ان يملك كل القوة وليس الحاكم . وهذا حدث لأسباب عديدة أهمها قوة الكنيسة الذي أصبح من الصعب تخطيها ، وهذا هو ذات السبب الذي شرحه المفكر فريد زكريا في كتابه " مستقبل الحرية " مشيرا إلى أن التفكير في الكنيسة كأحد أسباب بزوغ الحرية في أوروبا يبدو غريبا خصوصا اذا عرفنا الطابع الراديكالي الذي سلكته ، ولكن ما يقصده أن هذا الصدام تسبب بحفر الصدوع لتشرق من خلالها الخيوط النحيلة لأضواء الحرية . ولكن ماذا عن الروابط العائلية التي تعاملت الكثير من الأنظمة معها بحذر شديد على اعتبار انه خطر يهدد الدولة لأن الولاء يصبح لها وليس للدولة الأمر الذي يفضي إلى ترهلها وضعفها. هكذا يفسر فوكوياما قوة دولة المماليك التي شهدت استقرارا كبيرا واستطاعت أن تهزم المغول والصليبيين ، كما أن الأباطرة الصينين ، أسسوا كوادر خاصة من المخصيين الذي يذهب ولاؤهم للدولة وليس العائلة ، وبحسب الكاتب ، فإن هذا الخطوة ، وإن كانت تتم بطريقة عنيفة وغير مسبوقة إلا أنها كانت ناجحة ولها تأثير كبير جدا . في محاضرات ألقاها فوكوياما عن الكتاب بدا عاجزا على ملاحقة الوقت ليقول باختصار ما يريده . المحاضرات وحدها كانت خلابة وزاخرة بالأفكار الجديدة والتحليلات المضيئة كما هي عادة هذا المفكر الكبير . أما الكتاب فيبدو انه سيكون تحفة سيقدمها فوكوياما لعالم الفكر ، كما قدم سابقا تحفته " نهاية التاريخ والإنسان الاخير".