الذكريات قد لا تكون أحداثاً معنوية فقط، ربما تكون مادية ملموسة أيضاً، هذا ما يدركه أولئك الذين يحتفظون داخل منازلهم وربما صناديقهم المقفلة بأشياء يعتبرونها غاية في الخصوصية، تجمع تلك الأشياء أدوات وأوراق أشخاص بعيدون أو ربما فارقوا الحياة، والسؤال الذي يفرض نفسه: هل بسبب العاطفة وحدها يشعر بعض الناس بالقرب من أولئك الغائبين الذين نعشق كل ما يخصهم، وبالتالي تطمئن النفس لبقائهم؟، أم أن الموضوع له أبعاد نفسية أخرى؟. رائحة والدي في البداية تتحدث «حليمة ربيع» - أم لأربعة أطفال - عن هذا الموضوع معتبرةً المسألة شخصية ولا ضرر منها على حد قولها، مضيفةً أنها تحتفظ منذ ثمانية أعوام بقلم وثوب و»عقال» ووسادة والدها، ولا تستطيع التفريط فيها، بل وتشعر براحة كبيرة حين تستنشق رائحته التي لا تزال في هذه الأشياء، والتي جمعتها في حقيبة خاصة، وكل فترة تقابلها لبضع دقائق. أما «يزيد الغامدي» - شاب في العشرينات - فيقول: لدي مسبحة ونظارة وبعض كتب والدي رحمه الله، وأشعر أنها تحدثني كلما شاهدتها، فقد فارقت أبي صغيراً وأشعر بفقده حتى الآن، مضيفاً أنه مر على وفاته 12 عاماً، ذاكراً أنه يحتفظ ببعض الصور كلما اشتاق إليه، ولا يرى أي ضرر من احتفاظه بالماضي. فرح وترح في حين يحتفظ «أبو فهد» بأشرطة فيديو لوالدته التي كانت ترافقه مع أولاده في السفر فترات الصيف، والتي عادةً ما كانوا يقضونها في الخارج، مؤكداً على أنه يعتبر الموضوع تعذيب نفسي كبير؛ بسبب أن مشاهدة تلك اللقطات لوالدته تجدد حزنه عليها، في الوقت الذي لا يستطيع التخلص من تلك الأشرطة، لافتاً إلى أنه منذ أشهر قليلة كان أشقاؤه في لقاء اجتماعي، وطرحوا موضوع الأشرطة وأحب الجميع مشاهدتها، وجلس مع أشقائه يشاهدون والدته وهي تتحدث وتضحك وتداعب أحفادها وتعلق على البعض منهم، مبيناً أنهم ضحكوا في البداية على بعض التعليقات لاسيما وقد مر عليها أكثر من خمسة أعوام، ثم تحول ذلك اللقاء السعيد بمناسبة عيد الفطر إلى حزن عميق وبكاء شديد من الصغار والكبار، بل وتجدد الإحساس بفقدانها حتى هذه اللحظة، ذاكراً أنه تمنى لو لم تكن تلك اللقطات قد سجلت. حكمة صينية: «الحياة في تغير مستمر وما أنت سوى حارس مؤقت لأشياء كثيرة أثناء مرورك فيها» غرفة ابنتها وتستخدم «نادية سالم» بعض أدوات والدتها رحمها الله، وتعتقد أنها ستضفي على الأشياء طابع الفرح بدلاً من الحزن، وترى أن إخفاء تلك الأدوات والحنين لها، هو ما يجلب الحزن، مضيفةً: «أخذت الخمار الخاص بصلاتها وسجادتها، وبعض أدوات المطبخ التي كانت لا تستغني عنها»، موضحةً أن استخدام الأشياء الغالية على قلوبنا هو الأفضل من وجهة نظري. أما السيدة «أم خالد» فهي تحتفظ بغرفة ابنتها المتوفاة منذ عشرة أعوام كما هي، بل ولا تسمح لأي شخص دخولها دون أذن منها شخصياً، وتعتبر الأمر غير قابل للنقاش، وتحكي شقيقة المتوفاة قصة والدتها قائلةً: منذ أن توفيت شقيقتي «غادة» التي تصغرني بخمسة أعوام وأمي تقفل حجرة الفقيدة، ولا تسمح بدخولها إلا نادراً، وأراها في أوقات متفرقة تدخل وتبقى في الغرفة لبضع دقائق ثم تخرج، وقد امتلأ قلبها حزناً، ولا نملك نحن بناتها إلا أن نذكرها بالله عز وجل ونصبرها، ولكننا لا نجرأ على إقناعها بالتخلي عن تلك الحجرة أو التصرف بأشياء الفقيدة، مؤكدةً على أنه حاول خالها الكبير إقناع والدتها كثيراً عن تغيير هذا الوضع، ولكن لا مجال لنقاشها أبداً، ودائماً تربط برها والإحسان لها بعدم المحاولة في تنازلها عن تلك الغرفة. شخصية الإنسان ويقول «د.سامي الأنصاري» - مستشار أسري ونفسي وخبير تطوير الذات -: إن الموضوع يعتمد على شخصية الإنسان الذي يحتفظ بتلك الذكريات التي تجمع بعض أشياء المغادرين عن حياتنا، فإذا كانت مجرد ذكرى لا يشعر صاحب الشأن حين يراها بالحزن والفقدان فلا بأس من ذلك، أما إذا كانت تعيده في كل مرة إلى المشاعر السلبية وتكون بمثابة ما يسمى في علم البرمجة «رابط» فهنا تكمن المشكلة، وقد «قال صلى الله عليه وسلم على لسان جبريل عليه السلام في الحديث المعروف: يَا مُحَمَّدُ عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَأَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مَفَارِقُهُ»، لذلك العلاج يعتمد بالدرجة الأولى على العلاج السلوكي المعرفي؛ لأن أي شعور يتولد لدى الإنسان هو مرتبط أيضاً بشكل مباشر بالفكرة، مثل ارتباط الجهاز العصبي بالقلب، فهناك مثير وهناك استجابة، فالشعور يؤثر على الفكرة بشكل مؤقت، ولكن العكس هو الأقوى، مشيراً إلى أنه إذا تعدل الشعور الداخلي سيتعدل تبعاً له السلوك الخارجي، لذلك نحن بالعلاج السلوكي المعرفي نعمل على تغيير الفكرة وبالتالي يتغير الشعور والسلوك. تعذيب الذات وتشارك «نجلاء فهد المنيخر» - أخصائية العلاج النفسي - برأيها، حيث تعتبر الاحتفاظ والتعلق بالأشياء القديمة سواء كانت لنا أم للآخرين، هي شيء طبيعي طالما كانت في حدود الرغبة في إبقائها بهدف تذكيرنا بأحباب فقدناهم أو بمواقف تخصنا في الماضي، مضيفةً أنها قد تتحول لأشياء سلبية جداًّ ومتعبة، وفي هذه الحالة يتحول الموضوع إلى وسيلة لتعذيب الذات، واجترار الأحزان، وفي الدليل التشخيصي للأمراض النفسية يوصف هذا النوع من السلوك بأنه فرع من فروع «الوسواس القهري»، ويظهر سلوك التخزين القهري لدى نحو ما بين (25-30%) من المصابين باضطرابات الوسواس القهري، مبينةً أن الأبحاث أظهرت أن أعراض الاحتفاظ والتخزين بطريقة مبالغ فيها قد تظهر لدى المصابين ب»التوحد» و»الشيزوفرينيا» و»التخلف العقلي»، وهناك خمس صفات يتصف بها عادةً من لديه وسواس التخزين والاحتفاظ بالأشياء، وهي التردد وعدم الحزم، حيث إن أبسط قرارات الحياة اليومية مثل ماذا يلبس هذا الصباح؟، وماذا يأكل في المساء؟، تكون مشكلة كبيرة لهؤلاء المرضى، وهذا التردد يكون نابعاً من الحرص على الكمال والخوف من ارتكاب أي خطأ، كذلك صعوبة التصنيف، فهؤلاء المرضى يجدون صعوبة في تصنيف الأشياء بين ما يمكن الاحتفاظ به لنفعه وما يمكن الاستغناء عنه، لدرجة أن غلاف قطعة اللبان مثلاً تكون على نفس درجة الأهمية لفاتورة الكهرباء!. ارتباط عاطفي وأضافت: أما الصفة الثالثة فهي المعتقدات حول الذاكرة، فبالرغم من عدم وجود ما يدل على وجود مشاكل بالذاكرة، فإن هؤلاء المرضى منشغلون بها لدرجة «الوسوسة»، وهل يمكن الوثوق بها والاعتماد عليها أم لا؟، الأمر الذي يمنعه من المساس بما يمتلكه، مبينةً أن الصفة الرابعة هي في الارتباط العاطفي الشديد بما يملكه، حيث إن هؤلاء المرضى ينظرون إلى الأشياء المخزونة كجزء من أنفسهم وهم يرتبطون عاطفياً بها أكثر من الأشخاص العاديين، بل ويجدون الراحة العاطفية الشديدة، وهؤلاء المرضى يحصلون على البهجة والسرور من تلك الأشياء، لهذا تجد أن لديهم إدماناً شديداً على الشراء، مشيراً إلى أن الصفة الخامسة والأخيرة فهي الخوف من المستقبل!. نظرية صينية وأوضحت أن الاحتفاظ بالأشياء لمجرد الذكرى دون الفائدة منها وتراكمها، يسبب انحسار الحيز الذي ممكن أن تتحرك الطاقة بداخله، مما يصعب عملية الانجاز أو التنفس العميق، ذاكرةً أن الاحتفاظ بالأشياء تخوفاً من عدم الحصول على مثلها، يعود إلى عدم الثقة في المستقبل وفيما يأتي به الغد، مبينةً أن هناك نظرية صينية للعالمة «كارين كينج ستون» تقول فيها: «الحياة في تغير مستمر، وما أنت سوى حارس مؤقت لأشياء كثيرة أثناء مرورك فيها»، مشيرةً إلى أنها ترى الأولى التصدق بها، سواء كانت أشياء احتفظنا بها ومرت عليها السنين بلا استخدام، أو كانت لشخص فقدناه.