(26 فبراير 2006م في ذاكرة السعوديين: تتذكر إنجلترا 26 فبراير 1797م أنه اليوم الذي أصدرت فيه أول عملة ورقية في العالم، تمثلت في الجنيه! وتتذكر فرنسا نفس التاريخ من عام 1815م أنه اليوم الذي هرب فيه نابليون بونابرت من منفاه في جزيرة ألبا! وسنتذكر نحن السعوديين في ذات التاريخ من عام 2006م أنه اليوم الذي شهد ضُحاه الانهيار الأكبر في سوق الأسهم، تحطّم فيه سور الحوض المالي العملاق ب 3.1 تريليون ريال!) يمكن إيجاز ما تطرقتُ إليه في الجزءين الأول والثاني من هذا التقرير في نقطتين رئيستين؛ النقطة الأولى: أن مقدمات الانهيار بدأت تضرب بأطنابها شيئاً فشيئاً في غفلةٍ تامّة من الجهاز الاقتصادي والمالي، ما أفضى عبر دخول ملايين المتعاملين المحملين بمليارات الريالات من حرِّ أموالهم ومدخراتهم، وزادوا عليها أضعافاً مضافة بتزويدٍ هائل من ترسانة القروض البنكية التي لم ترفض خاطباً لها في ذلك العصر اللؤلؤي! بل على العكس كانت أحياناً تطرق البنوك أبواب العالمين بمختلف الوسائل المشروعة وغير المشروعة، من أجل إقراضها الأموال المفضية إلى عالم الثراء السريع. كل هذا تم في ظل ما يشبه الجمود في عرض الأصول المتاحة للتداول أمام الحشود الهادرة على أبواب وساحات السوق المحلية الضحلة، فماذا برأيك يمكن أن تتوقعه طريقاً للأسعار قد تشقّه غير الارتفاع الصاروخي (سهم شركة بيشة ارتفع خلال تلك الفترة بأكثر من 20 ألف في المئة). النقطة الرئيسة الثانية: دُقّت أجراس الخطر من خارج الحدود (صندوق النقد الدولي) بأن سوق الأسهم السعودية يواجه أخطاراً محتملة، ما يتوجب التدخل السريع قبل فوات الأوان لإيقاف صعوده غير المعقول، ومن أجل لجم جموحه المتزايد، ليصحو على إثر تلك الأجراس المجلجلة فريق الجهاز الاقتصادي والمالي مذعوراً لا يلوي على شيء غير تنفيذ بنود معالجة التضخم غير الحميد في الأسعار. لم يستغرق الأمر من ذلك الجهاز أكثر من 41 يوم عمل لتنفيذ أجندة الإصلاحات المتأخرة، في المقابل ومن عجبٍ أنه لم يستغرق أكثر من 15 يوم عمل فقط ليكتشف أخطاء التنفيذ، ولاحقاً سيكتشف متأخراً حتى خطأ البنود المقترحة من صندوق النقد الدولي للعلاج! أحملْ معك قارئي الكريم هاتين النقطتين في ذاكرتك فيما سيأتي من حديثٍ عن أسباب استمرار الانهيار طوال الخمس سنينٍ العجاف الماضية، فإنها جزءٌ لا يتجزأ من أسباب استمرار العلّة الكأداء التي عبثت وأي عبثٍ قامت به في جسد سوق الأسهم المحلية، والآن: السؤال الثالث – لماذا استمرَّ انهيار السوق المالية طوال الفترة الممتدة من تاريخ 26 فبراير 2006م إلى يومنا هذا 26 فبراير 2011م التي تبلغ مدتها الزمنية بالتحديد 1262 يوم عمل بالتمام والكمال؟ لنبدأ في مطلع الإجابة على هذا السؤال بالعبارة الاقتصادية الأكثر كوميديا في تاريخنا الاقتصادي المعاصر، التي ترددتْ كثيراً على أسماعنا طوال الخمس سنين الماضية (السوق يخضع لقوى العرض والطلب)، فأي قوى تلك التي يتحدّث عنها البعض دون كللٍ أو ملل؟! ولعله من المناسب بعد الإطلاع على الرسمين البيانين (1) و (2) المرفقين هنا أن أطرح سؤالين مباشرين على حملة هذه العبارة الكوميدية. السؤال الأول: ماذا قام به أدعياء هذه العبارة من إجراءات وجهود حينما كانت قوى الطلب العنيفة تجندل بقوى العرض أرضاً، أو تحت الأرض كما توضح الرسوم البيانية؟ السؤال الثاني: هل لا زال أولئك الأدعياء مقتنعين بسلامة ودقّة هذه العبارة فيما بعد انقلاب الوضع تماماً في ميزان القوتين، حيث أصبحتْ قوى العرض هي من تجندل بقوى الطلب أسفل الأسفلين؟ هل تعلم ماذا تعني تلك العبارة (السوق يخضع لقوى العرض والطلب)؟ إنها لا تعني أبداً أن تقف أمام اختلالها مكتوف اليدين، بل تعني في حقيقة الأمر أن تمارس دون كللٍ مهامك وأدوارك ومسؤولياتك التنظيمية من أجل صنع التوازن بين القوتين، وكما يبدو لك ولي وللعموم من صورة الرسم البياني أن صناعة هذا التوازن المطلوب لم تتحقق أبداً لا من قبل ولا من بعد، وأنها كما يبدو لا تزال في منطقة اللا مُفكر فيه (العبارة التي ابتكرها المفكر الراحل محمد أركون)، فما حدث في عهد غلبة قوى الطلب على قوى العرض أن الجهات المعنية بالسوق كانت تقف موقف المتفرج، وحينما استفاقت لتتدخل في فكِّ هذا الصراع غير المتكافئ بصورةٍ عشوائية ومتسرعة، أصبح المشهد على النقيض تماماً لتميل الكفّة لصالح قوى العرض على حساب قوى الطلب، وفي كلا الحالتين تتنافس الصورتين أيّما تنافسٍ في أي أيهما أسوأ من الأخرى. أفترضَ المجتمع الاستثماري أن يتوقف الانهيار في السوق بعد تغيير رأس الهرم في هيئة السوق المالية، الذي وصلت خسائره الفادحة في ظرف 61 يوم عمل إلى أكثر من 51.3 في المئة، انعكستْ هذه التوقعات بارتفاع المؤشر العام خلال الثلاثة الأيام الأولى فقط بنحو 18 في المئة، لتتقلص الخسائر الرأسمالية للسوق إلى نحو 42.5 في المئة مقارنةً بمستواها قبيل 26 فبراير 2006م، وواصلتْ تعويض جزءاً من خسائرها حتى مطلع يوليو 2006م الذي وصلتْ عنده إلى نحو 34.5 في المئة. خلال هذه الفترة التي ظنَّ فيها الجميع أن وعثاء الطريق الوعر الذي مرّت به السوق قد وصل إلى نهايته (أنظر الرسم البياني رقم (3))، كانتْ الورقة الأخيرة من بقية أجندة الإجراءات أو الإصلاحات المفترضة للسوق تتأهب للتنفيذ، واللتين تركزت على: (1) زيادة عدد الشركات المساهمة المدرجة، بهدف زيادة الخيارات الاستثمارية (زيادة العرض)، على افتراض أنها في الأجل الطويل ستكون التعويض الأنسب لأكثر من 2 تريليون ريال فقدتها السوق المالية، والفكرة بالطبع جيدة أن تعوّض تضخماً غير مبرر في الأسعار بما تستحقه من أصول ذات عوائد، وهو ما بدأ فعلياً العمل به في 22 يوليو 2006م بالموافقة على الاكتتاب في شركة أعمار الاقتصادية، مفتتحةً شوطاً طويلاً من الإدراجات وصلت في ما تبقّى من عام 2006م إلى نحو 7 شركات مساهمة برؤوس أموال مجتمعة بلغت 28.1 مليار ريال، وصلت قيمتها السوقية اليوم نحو 24.7 مليار ريال، أي بخسارةٍ بلغت 3.4 مليار ريال (بخسارةٍ نسبية بلغت 12 في المئة). كما وصلت إلى 26 شركة في عام 2007م برؤوس أموال مجتمعة بلغت أكثر من 124.8 مليار ريال، وصلت قيمتها السوقية اليوم نحو 91.7 مليار ريال، أي بخسارةٍ بلغت 33.2 مليار ريال (بخسارةٍ نسبية بلغت 26.6 في المئة). ووصلت خلال عام 2008م إلى 13 شركة برؤوس أموال مجتمعة بلغت أكثر من 81.2 مليار ريال، وصلت قيمتها السوقية اليوم نحو 79.1 مليار ريال، أي بخسارةٍ بلغت 2.1 مليار ريال (بخسارةٍ نسبية بلغت 2.6 في المئة). ووصلت خلال عام 2009م إلى 11 شركة برؤوس أموال مجتمعة بلغت أكثر من 9.4 مليار ريال، وصلت قيمتها السوقية اليوم نحو 17.2 مليار ريال، أي بمكاسب جيدة بلغت 7.9 مليار ريال (بمكاسب نسبية بلغت 84.2 في المئة). أخيراً وصلت خلال عام 2010م إلى 9 شركات برؤوس أموال مجتمعة بلغت أكثر من 11.6 مليار ريال، وصلت قيمتها السوقية اليوم نحو 13.1 مليار ريال، أي بمكاسب معقولة بلغت 1.5 مليار ريال (بمكاسب نسبية بلغت 12.7 في المئة). وعليه، يكون مجموع عدد الشركات لتلك الفترة نحو 66 شركة مساهمة، برؤوس أموال مجتمعة يبلغ 255.1 مليار ريال، وصلت قيمتها السوقية حتى اليوم إلى نحو 225.8 مليار ريال، أي أننا في مواجهة خسارة إجمالية بلغت 29.3 مليار ريال (بخسارةٍ نسبية بلغت 11.5 في المئة). (2) تقليص المساحة المتاحة للمستثمرين الأفراد، ومحاولة استبدال مواقعهم في السوق بالمزيد من المستثمرين المؤسساتيين ممثلاً في الشركات الاستثمارية المرخصة، ولهذا شهدتْ السوق مزيداً من دخول الشركات الاستثمارية والتراخيص لها طوال تلك الفترة، وقيام هيئة السوق المالية بإصدار قرارها القاضي بتوحيد توقيت التداول، بدأ العمل به في 28 أكتوبر 2006م. وبعدئذ، نتساءل معاً هل تحققتْ النتائج المستهدفة من هذين المحورين أعلاه عبر الخمس سنواتٍ الماضية؟ لنبحث هذا فيما يلي ونكتشف ما سيُسفر عنه هذا التقصّي. إجمالاً تبين لنا دراسةً مختصرة للاكتتابات، أن عدد الشركات التي أُدرجتْ على السوق منذ 2004م إلى اليوم قد بلغ 77 شركة (9 شركات فقط قبل فبراير 2006م، و 68 شركة بعده)، توزّعت تلك الشركات بين شركات تحت التأسيس (بدون علاوة إصدار)، وأخرى عاملة (بعلاوة إصدار)، حيث وصل عدد تحت التأسيس منها إلى 45 شركة (5 شركات قبل فبراير، و 40 شركة بعده)، ووصل عدد الشركات العاملة منها إلى 32 شركة (4 شركات قبل فبراير، و 28 شركة بعده). وصلتْ قيمة فاتورة تلك الاكتتابات مجتمعة إلى نحو 84.1 مليار ريال (12.6 مليار ريال قبل فبراير، و71.5 مليار ريال بعده)، دفعها نحو 170.8 مليون مكتتب (27.4 مليون مكتتب قبل فبراير، ونحو 143.4 مليون مكتتب بعده). توزعتْ تلك الفاتورة المدفوعة على: الشركات تحت التأسيس: بنحو 43.9 مليار ريال (8.4 مليار ريال قبل فبراير، و35.5 مليار ريال بعده). الشركات العاملة: بنحو 40.2 مليار ريال (4.2 مليار ريال قبل فبراير، و36 مليار ريال بعده). وبالنظرِ إلى حجم إضافة هذه الاكتتابات في عمق السوق طوال تلك الفترة كما هو موضحٌ في الجدولين رقم (1) ورقم (2)، فقد وصل عدد أسهمها المصدرة حتى تاريخه إلى أكثر من 18.5 مليار سهم مصدر (كانت 21.1 مليار سهم عند الطرح، ولكن بسبب التغيرات في رأس المال إما بالزيادة أو بالخفض فيه وصل إلى هذا الرقم)، بمعنى أنها أضافتْ إلى عمق السوق نحو 46.8 في المئة (8.9 في المئة لعدد 9 شركات فيما قبل فبراير، و37.9 في المئة فقط لعدد 68 شركة فيما بعد فبراير). ولعل مشاهدة مركزة في الرسم البياني رقم (4) والذي قد يكون لأول مرة تشاهد مثل الرسم؛ توضح لك على أي أرضٍ تقف السوق المالية السعودية بمشهدها اليوم، إذ ستلاحظ أن أسهم الشركات المساهمة قبل مطلع 2003م بعددها الأساسي قبل إضافة أية أسهم ممنوحة مبينة باسم (الأسهم المصدرة)، والتي تمثل واحدة من أصلب قواعد السوق تجدها في الجزء الأسفل من الرسم البياني، يأتي فوقها مباشرة الأسهم الممنوحة للمستثمرين والتي تمثل أرباح محتجزة تم رسملتها ودفعها في رأس المال، وكما تُلاحظ أنها اليوم تمثل من إجمالي الأسهم المصدرة في السوق حتى اليوم نحو 28.5 في المئة من إجمالي، فيما ستجدها تعادل نحو 115 في المئة من عدد الأسهم المصدرة في سنة الأساس! هذا يؤكد حقيقةً ساطعة مفادها أن أغلب الشركات المساهمة المدرجة قبل مطلع 2003م تتمتع بأفضل المزايا الاستثمارية التي يبحث عنها أي مستثمر في أي سوقٍ مالية، ألا ترى معي أن هذه الصورة المشرقة جداً قد طُمستْ تماماً مع ما شهدته السوق المالية من ما يُمكن تسميته بالتخبطات، أكثر من كونها اكتتابات سنرى بعد قليل مساهمتها الشحيحة في القيم المضافة للسوق ممثلة في أرباحها، أو قل خسائرها التي قضى بعضها على أكثر من 55 في المئة من حقوق المساهمين فيها. أخيراً وليس آخراً، تجد في أعلى الرسم البياني المساهمة النسبية للاكتتابات من مطلع 2003م إلى اليوم، وستلاحظ كيف اشتدت وتيرة تدفقها على من بعد انهيار فبراير 2006م، والتي كما تُلاحظ عبر امتداد الرسم أنها أرادت تحقيق الإستراتيجية التي أشرتُ إليها أعلاه، فكما تشاهد أصبحت تشكّل ما نسبته 46.8 في المئة من إجمالي المصدرة اليوم في السوق، شكّلتْ اكتتابات ما بعد فبراير 2006م البالغ عددها نحو 68 شركة مساهمة ما نسبته 37.9 في المئة! لا تنسَ هذه النسبة، فبعد قيل سيكون مهماً جداً مقارنتها مع نسبة أرباح تلك الشركات في المكاسب الإجمالية للسوق المالية. بتتبع نسبة إجمالي ما أضافته تلك الشركات بأرباحها السنوية إلى صافي أرباح السوق كما هو موضح في الرسم البياني رقم (5)، ستجد أنها لم تتجاوز في أفضل أوضاعها نسبة 7.2 في المئة طوال الفترة من الربع الثاني من عام 2006م حتى نهاية الربع الرابع من عام 2010م، الذي لم تتجاوز نسبة مساهمتها في أرباح أكثر من 1.2 في المئة! وبالمناسبة؛ فقد تجاوزت مساهمة أرباح الشركات التسع التي أُدرجت قبل فبراير 2006م في الأرباح الإجمالية للسوق حسب آخر بيانات مالية أكثر من 11.3 في المئة، مقابل مساهمتها في عمق السوق بنحو 9.8 في المئة!! إن في إعادة قراءة الأسطر الأخيرة أكثر من مرة لبيانٌ لنا وأي بيان، فهنا تتضح وتكتمل أمامنا الصورة بدون أي إضافاتٍ، أو مؤثراتٍ إيجابية أو سلبية، فماذا تعني لنا هذه النسب (المساهمة في عمق السوق، المساهمة في القيمة المضافة للسوق)؟! إنها مربط الفرس، وإنها المؤشر الحقيقي للبحث في جدوى أي اكتتاب من عدمه، فكلما زاد الفارق السلبي بين المساهمة في العمق والمساهمة في القيمة المضافة، كلما عنى ذلك فشلاً أو خطأ في التخطيط والتنفيذ! ونحن هنا نتحدث على أقل تقدير على المستوى الكلي للاكتتابات، فلا يمنع أن تكون مزيجاً من الشركات تحت التأسيس (عالية المخاطر) وأخرى عاملة منتجة تحقق أرباحاً لمساهميها، ولكن بشرط أن تتنبه (معادلة المزج) تلك إلى العلاقة بين العمق والقيمة المضافة. أنظر إلى شركات (سابك، الراجحي، الاتصالات، موبايلي، سافكو، سامبا، الرياض) تصل مساهمتها في عمق السوق لنحو 24.1 في المئة، وأنظر إلى مساهمتها في القيمة المضافة للسوق إذ تبلغ 69.2 في المئة! ما يعني أن ربع الكتلة الرأسمالية للسوق تساهم بنحو ثلثي مكاسب السوق السنوية!! فماذا قدّمت إذاً اكتتابات ما بعد فبراير 2006م التي وصلتْ مساهمتها في عمق السوق إلى 37.9 في المئة غير 1.2 في المئة فقط من القيمة المضافة للسوق؟! وماذا يعني ذلك لنا كجهاتٍ قائمة على السوق، وكمجتمع مستثمرين، وحتى كمؤسساتٍ وشركاتٍ استثمارية يُراد لها أن تكون المسيطرة على كافة أنشطة وتعاملات السوق؟! نستكمل الإجابة على هذا السؤال الفرعي، والإجابة بصورةٍ كاملة على سؤالنا الثالث حول أسباب استمرار الانهيار في السوق طوال الخمس سنواتٍ الماضية في الجزء الرابع من هذا التقرير بحول الله، فإلى الملتقى.. عبدالحميد العمري