بعد عشر سنوات من الحظر فتحت تجارة البترول في ليبيا أبوابها للمستثمرين واكتظت فنادق طرابلس بتجار النفط أو ممثليهم الذين جاءوا بهدف مقابلة المسؤولين الليبيين وتوقيع عقود تمكنهم من التنقيب عن الذهب الأسود في البلاد. كان الجميع يحلم بالملايين التي قد تدخل إلى أرصدتهم من هذه الدولة التي كانت تعادي الأمريكيين ويشتبه بعلاقاتها ببعض المنظمات الإرهابية. الكنز الذي يسيل له لعاب تجار النفط في كل أنحاء العالم موجود في جنوب ليبيا مدفوناً تحت كثبان عالية من الرمال. ويقدر العلماء مخزون النفط في تلك المنطقة بما يربو على 36 مليار برميل، وهو ما يكفي لتلبية احتياجات الولاياتالمتحدة كلها لثماني سنوات متتالية. ولكن هذه ليست نقطة البداية. فليبيا بالفعل ترغب أن تعطي للنفط الأولوية في قائمة المشاريع التي ترغب في خوضها.فالبلاد تمتلك أكبر احتياطي بترول في أفريقيا كلها، ورغم كل هذا أعلن مسؤولون حكوميون أن ربع البلاد فقط خضع لحملات التنقيب وربما خبأت بقية الأراضي المزيد من المفاجآت. ولكن المشكلة تكمن في التنقيب.. فالحكومة الليبية تحكم قبضتها على كل شيء وهناك بيروقراطية متشابكة وفساد إداري فاضح وتطبيق متعسف للقوانين.والنظام في البلاد مبني على أساس يجمع خصائص الاشتراكية والإسلام وهو نظام أراد معمر القذافي أن يواجه به الرأس المالية والشيوعية بعد أن تولى الحكم في البلاد نهاية الستينيات. هذه المشاكل ليست جديدة على تجار النفط العالميين فكثير منهم زار دولا كثيرة في العالم بحثاً عن عقود تقربهم من الذهب الأسود.فعلى الرغم من كل العوائق الموجودة إلا أن أصحاب شركات النفط مازالوا يتهافتون على ليبيا للفوز بالعقود. وأشار مكتب أمريكي للاتصالات أنه يستقبل ما يزيد على 200 طلب من تجار أمريكيين يرغبون في استثمار أموالهم في ليبيا. وستتوجه أنظار شركات النفط العالمية إلى ليبيا بعد أشهر قليلة عندما يحين موعد إعلان أسماء الفائزين بالعقود.والجميع يحلم بالفوز خاصة وأن أسعار البترول تعيش فترة ذهبية لم يسبق لها مثيل.وقد يساهم دخول النفط الليبي للسوق العالمي في تخفيض الأسعار الباهظة بشكل ملموس وهو أمر تنتظره الدول المستهلكة للبترول. ولكن شركات البترول وأصحابها باتوا قلقين من الوضع السياسي لدولة مثل ليبيا. فتجدهم يخشون أن تتوقف مشاريعهم المستقبلية لسبب أو لآخر خاصة و أن ليبيا كانت متهمة بالتعامل مع منظمات إرهابية مطلوبة دولياً.ويقول كلارينس كازالوت أحد كبار المستثمرين الذين يحاولون الفوز بالعقود في ليبيا لشركة ماراثون للنفط «أحد أهم الصعاب التي تواجه المستثمرين في ليبيا ربما تكون صعوبة الوصول لآبار البترول» وأوضح أيضاً أن المنافسة حامية بين الشركات التي أوفدت ممثلين عنها إلى ليبيا للالتقاء بكبار المسؤولين في الحكومة. وتشير التقارير إلى أن العالم وجه أنظاره نحو ليبيا بعد أن اعلن القذافي مسؤولية بلاده عن عدد من الأعمال الإرهابية بما فيها «حادثة لوكربي» الشهيرة التي أودت بحياة أكثر من 270 شخصاً. كما وافق على أن تدفع بلاده 2,7 مليار دولار كتعويضات للمتضررين. وبعد هذا الحدث قامت الحكومة الليبية بإبرام اتفاقية مع الإدارة الأمريكية تفيد أن ليبيا لن تقوم بتطوير برامج لأسلحة الدمار الشامل. وهو قرار ساهم بشكل كبير في رفع الحظر الاقتصادي على البلاد. ولكن مازال الأمريكيون يعتبرون ليبيا واحدة من الدول التي ترعى الإرهاب ومازال اسمها مدرجاً في قائمة الدول التي يجب التعامل معها بحذر. وهذا يمنع وصول كثير من الواردات للأراضي الليبية حتى و إن كانت متعلقة بمشاريع التنقيب عن النفط. وبعيداً عن الإرهاب.. نجد أن الفساد الإداري هو سبب آخر يحد من حجم الاستثمارات الأجنبية في ليبيا. فقد وضعت ليبيا نفسها في المركز 108 في قائمة تضم 145 دولة صنفت على أنها الأسوأ من ناحية الفساد الإداري والاعتماد على الرشاوى. إضافة إلى أن الخبراء يعتقدون أنه من الصعب على الليبيين أن يتعاملون مع أشخاص كانوا أعداء لهم حتى وقت قريب. فقد كانت ليبيا دولة محظورة على أي أجنبي ولم يتعود أفراد الشعب على مشاهدة أجانب في البلاد.ويتذكر الجميع كيف رفض الليبيون دخول السيدة يوكيكو أومورا إحدى كبار موظفات البنك الدولي التي كان من المقرر أن تلقي خطاباً في طرابلس ولكن منع دخولها بسبب مشاكل في تأشيرتها. وعلق أحد رجال الأعمال الأوروبيين على هذه الحادثة «ما حصل يعطي انطباعاً أن البلاد ليست جاهزة بعد لاستقبال أجانب، كان من الأفضل أن يرافقوها ويسهلوا رحلتها بدلاً من أن يطردوها من البلاد».. ثم أشار إلى أن ثلاثة عقود من الحكم بنظام يخلط بين الأنظمة الإسلامية والاشتراكية والقوانين القبلية تسببت في تفكيك الشعب وانقسامهم بين رافض ومؤيد.فأكثر من نصف سكان البلد يعملون في مؤسسات حكومية تحت نظام بيروقراطي لا يعجبهم كثيراً. كما أن البطالة وصلت إلى معدلات مرتفعة تجاوزت 30٪ من عدد السكان وهي نسبة مرعبة مقارنة بعدد السكان. إضافة إلى أن السكان يفتقدون الخدمات العامة الأساسية التي تشمل التعليم والعلاج إلى درجة أن بعض الليبيين يسافرون إلى دول مجاورة لتلقي العلاج بشكل أفضل من أي مرض يعانون منه. ولهذه الأسباب، يدخل المستثمرون الأجانب ليبيا بحذر والسؤال الوحيد الذي يفكرون به دوماً هو هل تخلى النظام الليبي عن ماضيه؟ وهل سيؤثر المخطط الليبي الفاشل الذي استهدف صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز على وضع ليبيا دولياً من جديد أم لا؟.. ويضيف رانديل يونغ وهو أحد المحامين الأمريكيين الذين يعملون لإحدى شركات البترول «الأمور في ليبيا ليست مستقرة، على الأقل هكذا تبدو لنا كتجار نفط. وكل الاحتمالات واردة ضد هذا النظام الذي لا يزال غامضاً». وأضاف أحد التجار «جئنا إلى ليبيا وتقابلنا مع مسؤولين من أجل الحصول على عقود للتنقيب عن البترول. الاستثمار هنا يهمنا كثيراً ولكن لا نريد أن نغامر بأموالنا في ظل وجود كل تلك المشاكل في البلاد».. وتفعل ليبيا كل ما في وسعها من أجل تغيير وجهة نظر الأجانب. ولهذا الهدف بدأ مطار طرابلس في استقبال الواصلين للبلاد بطريقة جديدة أكثر ترحيباً مما مضى، كما وفر لهم الكثير من الأصناف الضرورية في سوق حرة فتحت أبوابها مؤخراً. ويستطيع المسافرون استخدام الإنترنت في المطار بحرية تامة لمتابعة أعمالهم ريثما يحل موعد رحلاتهم. وحلت الإعلانات التجارية مكان صور القذافي التي كانت منتشرة في كل مكان في العاصمة طرابلس. عاصفة التغيير هذه تهدف لتغيير شكل ليبيا في أعين الغرب الذي كان ولا يزال ينتقد النظام وطريقته. والحكومة الليبية يهمها اليوم أن تكسب ود تجار النفط المؤهلين في عمليات التنقيب واستخراج البترول والإشراف على عمليات بيعه. ولا يريد النظام الليبي أن يخسر المبالغ الهائلة التي قد تعود بالنفع على البلاد ومن فيها بمجرد دخوله سوق البترول العالمي من جديد. والحكومة الليبية تنوي أن تصل لقمة الإنتاج بحلول 2010م وهو ما يعادل 3,3 ملايين برميل يومياً. ولكنها ومنذ سنوات طويلة ليست قادرة على تجاوز 1,5 برميل نظراً لصعوبة استخراج البترول والتكلفة الباهظة المرافقة لتلك العمليات. وهو ما دفع بالليبيين أن يقدموا الدعوات للشركات الأجنبية التي يهمها أن تحصل على نصيب من الأرباح مقابل التكفل بكل العمليات المتعبة والمكلفة. ولكن مهما كانت الظروف المحيطة بوضع البلاد سياسياً أو اقتصادياً، تبقى ليبيا بلداً يسيل له لعاب المستثمرين. ولم لا والبلاد تعتبر أحد أهم مصدري البترول في العالم قبل أن تتوقف عمليات التنقيب في بداية الثمانينيات. ففي عام 1981م انسحبت كبرى شركات البترول «إكسون» و«موبيل» من ليبيا بعد أن بدأت أولى بوادر المواجهة بين الولاياتالمتحدة والنظام في ليبيا.وتسبب هذا الانسحاب في سقوط معدل الإنتاج بشكل واضح إلى أن جاءت الضربة القاضية من الرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريغان في عام 86 حين قرر أن يقصف ليبيا وطلب إخلاء كل الرعايا الأمريكيين وألغى كل التعاملات التجارية قبل أن تبدأ العمليات. ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم تهاوى الإنتاج الليبي بشكل كبير، وكان لذلك آثار سلبية على الاقتصاد المحلي للبلاد وسكانها. ولكن الليبيين يأملون أن تنتهي مشاكل بلادهم مع الغرب بأسرع وقت ممكن حتى يقطفوا ثمرة صبرهم وانتظارهم الذي دام سنوات طويلة. ٭ نيويورك تايمز خاص ب «الرياض»