يحفل التراث العربي بالعديد من الفنون الشعبية ، التي تستحق دراستها بجديّة ، لاسيّما ما يتعلّق بفن الشعر الشعبي ، سواءً في تهامة بجازان والحديدة ومعها صنعاء في دراسة الموشّحات والمبيّتات الحمينية ، أم فن الدان الحضرمي وكذلك الشواني (الشبواني) ، وأيضاً فن الشقر بمنطقة عسير أو الزوامل بمنطقة نجران وأجزاء كثيرة من اليمن السعيد ، أو مايتعلّق بالغناء البحري في الخليج العربي مثل فنّ الونّة ، وأيضاً فن الزهيري في العراق والكويت ، إلى فني السامري في الجنوب النجدي والدحّة شمالاً ، وكذلك فن الزجل والملحون في البلاد العربية ، وأيضاً القوما والحماق والكان كان والشعر النبطي كما أسهب في شرحها ابن خلدون والأبشيهي وغيرهما . ومن الفنون العربية التي تستحق الوقوف لها تقديراً فنّ "العتابا" المشهور في بلاد الشام والرافدين الذي اشتهر به عبدالله الفاضل العنزي ، الذي ولد في القرن الثاني عشر الهجري - التاسع عشر الميلادي بالجزيرة العربية وهاجر مع فخذ آل حسنة إلى بلاد الشام ، في قصته المشهورة ، وغنّى على ربابته أبياتا شكك الروائيون في صحّة نسبتها إليه ، ومن ذلك أبياته الشهيرة: هلي مالبّسوا الخادم سملهم وبكبود العدا بايت سملهم كان أهلك نجم أهلي سما لهم وكثير من النجم علاّ وغاب ويوازي فن العتابا بعض الألوان الغنائية كالنايل والسويحلي ، وبعض الدبكات الخفيفة كالميمر والماني والهلابا ، وهو تطوير لفنون شعرية غنائية سبقته كفن القوما الذي أشرت له في بداية مقالي ، كما أن له مدارس مثل مدرسة العتابا الجبورية نسبة إلى قبيلة "الجبور" التي سكنت في شرق بلاد الشام والشمال الغربي من العراق ، وأكثر الباحثين اتفقوا بأن نشأة العتابا كانت هناك ، إلا أن اختراعه يعود إلى القرن السابع الهجري ، حيث إن أول من غنى العتابا هو ابو الحسن الحريري (ت546ه) . ومن سمات فنّ العتابا أنه يتركب من أربعة أشطر ، الأشطر الثلاثة الأولى تعتمد على الجناس في الكلمات التي تتفق في اللفظ وتختلف في المعنى مثل الزهيريات ، وينتهي الشطر الرابع بما يسمى قفلة العتابا أو الرباط . وفن العتابا يأتي على مقام البياتي في الموسيقى ، وأحياناً على الحجاز وكذلك صبا ، ووزنه عروضياً على البحر الوافر ، وتفاعيله (مفاعيلن مفاعيلن فعولن) ، الذي يعرف نبطياً بلحن "الصخري" نسبة إلى بني صخر في بادية الأردن . وقد تناول كثير من الباحثين في الدراسات هذا الفن ، كما قام الروائي السوري حليم بركات (1933م) بنقل هذا الفن في روايته "طائر الحوم" التي نشرت عام 1988م والتي صنّفت من أفضل مائة رواية عربية في القرن العشرين ، والتي نشر بها فنون أخرى لعلي أتجاوز بعضها مركزاً على فن العتابا . ففي صفحة (76) من روايته المشار إليها أورد بركات: ثلاثي وأربعة وتنين تسعه عاصديرك دبيب النمل يسعى وين أهل المروّة اليوم تسعى يفكّو لي الحديد من الرقاب وكذلك أورد: شوف الزين عادولاب البيري خد الزين ياشلّة حريري وني لعاشرك وأنت صغيري قبل مايصير ببزازك حلابا سكابا يادموع العين سكابا كما أورد أيضاً: حباب الدار وين راحوا شبيه الطير لو قصّوا جناحو فنلاحظ اختلال الجناس الذي لا يتفق مع فن العتابا الشهير ، وكذلك زوائد ، وأيضاً اختلال واضح في الوزن ، بعكس إيراده في صفحة (77): جرى دمعي على خدي من الهم ولا صايغ جلا قلبي من الهم خمّنت الصفا غالب على الهم أتاري الهم غلاّب الصفا أما في الصفحات (106-107-108-109-110) يتحدث عن غناء أحد أبطال الرواية الذي يسترسل في غنائه العتابا والميجانا والمعنى والدلعونا حيث يذكر ترديده (يا يابا، يا يا با ، يايا ...با) ولعل هذا الترديد يشبه ترديد الدان الحضرمي ، وكذلك التنعيم الذي ذكر عنه الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي يردّده العرب لتعليم أبنائهم وزن الشعر العربي مثل (نعم لالا،نعم لالا، نعم لا) ، ويرد بركات من رواية سليمة للعتابا: بنيِّ عالمحبة جرّعيني (جرّئيني) ومن منهل شفاهك جرّعيني عيونك سود منهم جرّعيني بميل الحب عالأربع هداب لكن بركات لم يسأل عن صحّة إيراده: حبيبي هات أوتارك وعودك وغنّي لإخوانك وعودك الظرف ربّاك ياشاعر وعودك على عزف الناي وحنين القصب إذا صيّفت بقمة جردنا إلك لحم الصدر فوراً جردنا وبصدر ما نخاف من لما جردنا رمح يدق سنوّ بالكعاب وفي الصفحتين (111-112) أورد : بكيت ويوم توديعك نحت فيه وقلبي صخر ازميلك نحت فيه وطيفك لو أتى زائر نحتفي فيه بعواطف مثل قطرات الندى كما أورد: امنح خيالك من علو قبلة سماك ويسبق خليل جبران بن خيي حليم يا إلهي ما إلي فعلاً سواك إنت الحكيم إنت العليم إنت الرحيم إنت الحكيم إعطيه كافة حكمتك وأنت المربي ونحن نعرف تربتك واجعل حليم يكون جانب كرستك نتّبعوا ونشوف خطٍّ مستقيم نتبعوا ونقرأ حكايات وقصص بالمدارس كلما رنّ الجرس حتى عصافير اللي ضمن القفص تغرّد تغنّي من أناشيد الحليم قلت: ليت ما أدخله وضمّنه بركات في روايته سواءً من العتابا أو فنون أخرى مثل الميجانا والأشعار الشعبية الأخرى مثل هذا الذي أورده: أنا برخّص بحالي وإنت غلّيت وأنا برّد غليلي وأنت غلّيت وأن بحمد حسامي وانت غلّيت سنان الرمح بصدور العدى ويتبع ذلك بوصلة ميجانا: عليّ ياجناحي واهبطي بديار حبابنا . ولعل الرواية الأنسب في الميجانا السابقة هي "بديارنا" أو هذا: فيكِ تسحريني شب وشاي بوفيكِ عالشباب ترجّعيني فيكِ تجعليني قوم حارب وفيكِ عالأعادي تنصريني فيكِ تجعليني شمع دايب وفيكِ بالمزاز تشعّليني فيكِ تجمعيني بالحبايب وفيكِ من حبيبي تحرميني فيكِ تعمليني قمر غايب وفيكِ بالصباح تطلّعيني فيكِ تعمليني ثلج دايب وفيكِ بربع تكي تجلّديني وفي صفحة (142) أورد من الزجل: لابد عن شدة ولا بد عن ضيق لا بد عن رخا وأيام الهموم تزول لابد عن جزع الطويل لينحني ولا بد عن جزع القصير يطول لابد للأحبة أن يتفارقوا ولو ربّطوهم بحبال وتول وهذا واضح أنه محاولة للوزن على الطرق الهلالي القصير ، لكنه من الهلالي المروي والمكسور ، كما نلاحظ في مقطوعات العتابا السابقة ، وكذلك مايشبه المروبع ، خلل في الأوزان ينمّ عن رواية خاطئة تلقاها حليم بركات وحفظها ربما منذ الطفولة ، لكنه لم يسأل المختصين عن صحتها أو عن روايتها الحقيقية ، ولعل بعده في المنفى أثر على ذلك ، بعكس كثير من الروائيين الذين يدقّقون فيما يكتبون في كافة العلوم ومنها الشعر النبطي ، ومن ذلك عبدالرحمن منيف الذي كتبت عنه دراسة في السابق .. والجدير بالذكر أن بركات أورد مقطوعات كثيرة من الشعر الشعبي غير الموزون ، والذي لا ينتمي لأي مدرسة شعبية عربية كما أظن ، وكذلك من طروق وألحان كثيرة تنتمي لمدارس تنتسب بعضها للحن الحميداني ، كما أن منيف كتب مقدمة رواية "طائر الحوم" لحليم بركات التي حوّلها من قصة قصيرة نشرت في إحدى الصحف إلى هذه الرواية المكتملة البناء ، ولكن يظهر أن منيف لم يقرأ كثيراً في هذا الفنّ ، ومثل هذا ما جعل كثيرا من الروائيين الكبار يتهرّبون من كتابة مقدمة لروائيين آخرين كيلا تحسب عليهم رواية كتبها آخر!