كما هو ظاهر من العنوان، فالدكتور أحمد العيسى في كتابه الجديد "التعليم العالي في السعودية: رحلة البحث عن هوية" يؤكد أن حجر الزاوية في أي إصلاح تعليمي على مستوى التعليم العالي لابد أن ينطلق من هذه الزاوية تحديداً.. خلق هوية مميزة لكل جامعة، وهذه الهوية لا يمكن خلقها إلا من خلال إتاحة المجال للجامعات لأن تستقل وتتخفف من قيود البيروقراطية والمركزية. لذا يؤكد العيسى في كتابه أن إشكالية التعليم العالي الأولى هي التنميط، أو كما كتب المؤلف: النظام الحالي لمجلس التعليم العالي والجامعات الذي صدر قبل نحو عشرين عاما، ساهم في طمس هوية الجامعات، وخنق فرص التنوع والاختلاف بينها، فكانت جامعاتنا الست والعشرون وكأنها جامعة واحدة. ومن هذه النقطة تحديداً يرى العيسى أننا أصبحنا لا نعرف فيما تتميز تلك الجامعة عن الأخرى، فكأنما صبت تلك الجامعات في قالب واحد، طمس معه أي احتمالية تنوع أو اختلاف، من الناحية الإدارية البيروقراطية، والأسوأ من الناحية الأكاديمية كذلك، فلم تستطع أي من تلك الجامعات الستة والعشرين أن تخلق لها هوية مميزة. يحدد العيسى هدف الكتاب في قراءة واقع التعليم في المملكة قراءة فكرية، إذ يقول: الكتاب ليس كتابا تاريخيا يرصد مسيرة مؤسسات التعليم العالي ويؤرخ لإنجازاته، وإنما هو كتاب نقدي فكري يهتم بتلمس الإنجازات والإشادة بها، ويحرص على فحص العيوب وكشفها. ربما كانت أبرز الصعوبات التي تواجه الكاتب – كما يذكر – الخوف من اعتباره سائراً عكس التيار في التعاطي مع وزارة التعليم العالي، التي لا يخفي كونها حققت قفزات مميزة خلال السنوات القليلة الماضية، من خلال الجامعات الجديدة التي أنشئت ومن خلال برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث والذي أدارته الوزارة كذلك. يرى المؤلف أن التغيرات الأخيرة ما زالت دون المأمول، إذ جاءت خارجية ولم تنفذ إلى عمق العمل الأكاديمي، أو تغير من "فلسفة التعليم" السائدة لعقود مضت، لذا ما زالت الرؤية الفكرية حول واقع التعليم في الجامعات السعودية غائبة. ينقسم الكتاب إلى خمسة فصول، بالإضافة إلى المقدمة والتمهيد. جاء الفصل الأول من الكتاب بعنوان "قراءة في الفصل الراهن " ويتطرق المؤلف من خلاله إلى بدايات التعليم، وفترة الركود والتي حددها بالفترة بين 1980م و2000م، وذكر أزمة القبول والاستيعاب التي كانت بين عامي 1990م و2005م، ثم تحدث عن التوسع المفاجئ بين 2002م و2010م. وتطرق كذلك إلى برنامج الابتعاث للخارج، وبدايات التعليم العالي الأهلي، وكذلك التعليم العالي للبنات، وختم الفصل بالحديث عن جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية "كاوست" وما تحمله من مميزات تؤكد إشكاليات التعليم العالي بالمملكة، فهي - كما يراها المؤلف – ولدت خارج سياق النظام التعليمي العالي تماما من الناحية الإدارية، ومن الناحية الفكرية والثقافية كذلك، مما يؤكد في نظر المؤلف على الإشكاليات التي يعاني منها التعليم العالي، وتجعل الجامعة الحلم خارج أنساقه تماما. في الفصل الثاني وتحت عنوان "ماذا عن سؤال الهوية في الجامعات السعودية؟" يبحث الكاتب تلاشي هويات الجامعات العريقة، وقولبة الجامعات الجديدة، ويتطرق إلى مجانية التعليم الذي يصفه بأنه "بلا قيمة .. بلا هوية" ثم يتحدث عن أهم نقطة شغلت الجامعات في المملكة مؤخرا وهي مسألة التصنيفات الدولية، والتي أثارت الرأي العالم ضد الجامعات، التي تنبهت لهذه المسألة، فطورت مواقعها الإلكترونية سريعاً لتحقق مراكز متقدمة في تصنيف "ويبوماتريكس" الإسباني ثم بدأت في تطوير برامجها الأكاديمية، لتحقق مراكز جيدة في تصنيفات أخرى كتصنيف "شنجهاي" لكن العيسى يتطرق إلى الانقسام حول هذه التصنيفات نفسها، بين من يعتبرها مفيدة وهامة وتحدد مستوى الجامعات ومخرجاتها، وبين من يراها ارتبطت بشركات ومكاتب استشارية ويغلب عليها الطابع التجاري. ويشير العيسى في ذات الفصل إلى الحرية الأكاديمية، ومسألة لغة التعليم "العربية أو الإنجليزية" والحياة الأكاديمية، إذ يتساءل "لماذا يكره طلابنا جامعاتهم؟". ويشير إلى دور الجامعات في التنمية، وما يصفه ب"الطلاق البائن" بين الجامعة وتيارات الفكر والثقافة، والذي يرى سببه في "التوجس المبالغ فيه لدى المسؤولين في الجامعات، ولدى المسؤولين في وزارة التعليم العالي، من منح الجامعات فرصة الانفتاح على قضايا المجتمع وإطلاق الحريات في مناقشة القضايا الحساسة؛ فحرصوا على ألا يكون للجامعات موقف من هذه القضية أو تلك". أما الفصل الثالث فجاء تحت عنوان "كيف غابت هوية الجامعات السعودية" ويتطرق فيه إلى سياسات التعليم ومجلس التعليم العالي، ويطرح دور الأنظمة واللوائح في طمس هوية الجامعات وقولبتها ومنعها من التحرك باستقلالية على كافة المستويات. وفي الفصل الرابع "يتطرق الكاتب إلى التعليم في الخارج، فتحت عنوان "نافذة على التعليم العالي خارج الحدود" يتحدث عن التعليم العالي العريق في أوروبا، والتعليم العالي في أمريكا، ثم يشير إلى الشرق الأقصى، ودول الخليج العربي بما وصفه ب"حراك جديد وأسئلة صعبة" ويتطرق في هذا الفصل إلى تجربة التعليم الأجنبي في منطقة الخليج العربي، وهي تجربة حديثة، وحدد المؤلف بعض إيجابياتها "تأهيل الكفاءات العلمية في مناخ تعليمي مختلف، ويماثل ما يتوفر لدى الجامعات العالمية المحترمة، بالإضافة إلى اختصار كثير من الوقت والجهد في بناء مؤسسات تعليمية رائدة وفق الأنظمة والمعايير والأعراف الأكاديمية والعلمية الدولية". يختم المؤلف كتابه بالفصل الخامس "جامعاتنا إلى أين؟" بعد أن كتب رؤيته وشخص ما يراه في التعليم العالي بالمملكة، مقيما ما يحدث اليوم من تغيرات بقوله: هذا الحراك كله، وتلك الجهود جميعها – مهما عظمت ومهما أنجزت- فإنها تبقى عرضة للرياح، والتقلبات، والانتكاس؛ لأنها لا تستند إلى هوية واضحة، وفكر راسخ، وأسس قانونية متينة، وسياسات عامة واضحة ومعتمدة. الدكتور أحمد العيسى، كاتب وباحث، عمل مديراً لجامعة اليمامة الأهلية سابقا، وعضواً في عدد من الهيئات ومجالس التعليم المحلية والدولية، وصدر له "التعليم في المملكة العربية السعودية: سياساته، نظمه، استشراف مستقبله" و"إصلاح التعليم في المملكة العربية السعودية". "التعليم العالي في السعودية: رحلة البحث عن هوية" صدر عن دار الساقي، ويقع في 188 صفحة من القطع الكبير.