لا شك أن المرأة كانت وما زالت الشغل الشاغل للكثيرين في مجتمعنا ، فمنهم من يريد تعليمها فقط ، ومنهم من يريد تعليمها وتشغيلها ، ومنهم من لا يريد لا هذا ولا ذاك بل يريدها قابعة في منزلها رهينة لتسلط الرجل أو رهينة الحاجة والفقر. وبين هؤلاء وأولئك تقف المرأة حيرى لا تدري ماذا تفعل كي تنال حقوقها وتكون عضواً فاعلاً في التنمية المجتمعية . في هذا الخضم تحتل المرأة بؤر اهتمام أولئك الذين نصبوا أنفسهم أوصياء عليها من المهد إلى اللحد حتى صارت مشكلة المشكلات ؛ إن هي تعلمت أو عملت أو تاجرت أو سافرت أو ابتعثت أو تزوجت أو طُلقت ... وكأنه لا مشكلات لدينا سواها ، فلا فسادَ ولا بطالة ولا فقرَ ولا ارتفاع أسعار ولا أزمة مساكن ولا مخرجات تعليم بائسة ولا مستثمرين نجلبهم ليستثمروا في كل شيء حتى في أقواتنا ، ولا سبعة ملايين أجنبي بين ظهرانينا يأكلون الأخضر واليابس ، ولا جن يتلبسون وسحرة يزينون النهب والسرقات(للشرفاء)!! المرأة قدركم الذي لن تفروا منه إلا إليه، ولن تستطيعوا وأدها كما فعل الرجل الجاهلي فأراحها واستراح ! إن المسارعة إلى التحريم تعني أن كل من تعمل في محيط فيه رجال فهي بالضرورة ترتكب محرماً، وهنا نتساءل ماذا عن الطبيبات والممرضات والعاملات في البنوك والشركات الكبرى ؟ ثم إن هذه الفتوى ضد السعودة إن الخشية من إثارة الفتنة التي بررت عدم محاسبة قاضي الجن المسحور لم نر ما يماثلها كالخشية على المرأة من الانحراف تحت وطأة الحاجة ! لدن صدور فتوى تحريم عمل المرأة محاسبة ، بذريعة أن ذلك يعرضها (للفتنة ويفتن بها الرجال ، فهو عمل محرم شرعا ) ، لكن ماذا عن عملها في بسطة صغيرة تحت أشعة الشمس ؟ وماذا عن وقوفها عند الإشارات متسولة ؟ أحلال هو أم حرام ؟ إنه إن كان عملها محاسبة محرم على هذا النحو القطعي ، فماذا عن نهب أموال الوطن والفساد الذي يزينه الجن والسحرة ؟ وما حكم إغلاق باب الرزق الحلال دون امرأة تعصف بها الحاجة ؟ ألا يفتح هذا ألف باب وباب لإفسادها ؟ ثم ماذا نتوقع أن تفعل المضطرة التي طرقت باب الحلال فأوصدوه في وجهها ؟ إن من فعل ذلك ما كان له أن يفعله لو كان في أهل بيته من تعاني البطالة والحاجة والعوز ، وهو أمر نحن على يقين تام - اللهم لا حسد - بعدم وجوده في بيوتهم.. إن عدم الإحساس بحاجة الآخرين وتغليب الرؤى الضيقة على ما عداها أمر لا يغفره الله ولا يقره العرف ولا يستوعبه العقل . وتصر الفتوى على أن (توظيف الشركات لها في مثل هذه الأعمال تعاون معها على المحرم فهو محرم أيضا). وهنا نتساءل أيضا ما حكم الصمت على فساد من تلبس به الجن وزين له السحرة نهب ملايين الريالات ألا يعد الصمت عن عقابه وكف يده عن العمل يشبه التعاون معه ؟ إن السؤال الذي وجه وأنتج تلك الفتوى المتسرعة ، هو حق أُريد به باطل لما ينطوي عليه من استدراج للتحريم واستفزاز للمستفتين حتى تخرج الفتوى بالتحريم الذي أراده السائل . أين ذلك السائل المتحمس الغيور على النساء من محلات بيع اللوازم النسائية ؟ ألم يكن حرياً به إن كان يخشى على النساء أن يسأل أيضا عن حكم شراء المرأة ملابسها الداخلية التي صُمم بعضها على درجة عالية من السخونة والإثارة والتفاصيل الدقيقية ، من رجل أجنبي يمعن في وصف محاسن بضاعته بين يدي نساء بعضهن فتيات قاصرات وبعضهن نساء ساذجات ! لماذا لم يحرك هذا الوضع الغريب والمشين مشاعر أولئك الخائفين على المرأة من الاختلاط بالمشترين في الأسواق ، اختلاطاً لا يتعدى دفع الأموال واستلام البضاعة أمام كل الناس ، وتحت أضواء عالية ، وليس خلف استنادات ومشاجب كبيرة تستر بعض من في المحل؟ إن هذا الصمت يفسر كيف تنادى أصحاب المصالح وهبوا هبة مضرية للحيلولة دون تأنيث محلات الملابس النسائية بحجة أنها في سوق مختلط ، وإنهم إذ تسارعوا إلى تحريم عملها محاسبةً لم يبالوا بوجودها مع رجل أجنبي يعرض أخص خصوصياتها تلك الخصوصيات التي لفرط حساسيتها نجد كل دول الغرب (الكافر) لا توظف الرجال فيها ولا يبيعها للنساء سوى النساء ، أما نحن فلا نبالي أن يبيعها رجال أجانب لنسائنا ، مما يؤكد الانتقائية الفجة التي تراعي مصالح خاصة وتمعن في الكيد لمن اقترح تأنيث تلك المحلات رحمه الله في أسلوب أكثر شبهاً بما تفعله بعض النساء الجاهلات اللاتي لا يحسنّ سوى المكيدة ومخالفة من لا يتفق معهن حتى لو كان قراره أكثر صواباً ! وهنا نتساءل هل حاول واحد من هؤلاء الممسكين بزمام شؤون المرأة أن يذهب لتلك المحلات ليرى كيف تعرض تلك الملابس وكيف يبيعها الرجال الاجانب لنسائنا ؟ ثم ماذا عن هيئة الأمر بالمعروف هل حاولوا زيارة تلك المحلات ؟ ولماذا يغضون الطرف عنها ؟ ألأنهم كانوا شركاء في إبطال تأنيثها لأن المصالح تلاقت ؟ وهل أمِن - من أصدر فتوى منع النساء من العمل محاسبات - الفتنة على النساء في محلات بيع لوازمهن عندما نصت فتواه على أنه (لا يجوز للمرأة أن تعمل في مكان فيه اختلاط بالرجال، والواجب البعد عن مجامع الرجال والبحث عن عمل مباح لا يعرضها لفتنتها أو للافتتان بها ) ؟؟؟ إن المسارعة إلى التحريم تعني أن كل من تعمل في محيط فيه رجال فهي بالضرورة ترتكب محرماً، وهنا نتساءل ماذا عن الطبيبات والممرضات والعاملات في البنوك والشركات الكبرى ؟ ثم إن هذه الفتوى ضد السعودة إذ تصب في مصلحة الأجانب ، كما أنها ضد سياسة الدولة التي تعمل جاهدة لإيجاد عمل للنساء اللاتي فاقت بطالتهن حد المعقول ، كما تعني أن الدولة عندما سمحت بذلك فإنها إنما ترتكب محرماً !!! أما الاختلاط فما زال ذلك الوحش الذي يخيفوننا به لدن مقاربة أي موضوع للمرأة ، وأما الشك في المواطنين فهو الحجة الأخرى التي يشوهون بها الرجال وكأنهم وحوش ضارية تنتظر أن ترى امرأة لتنقض عليها ! ليس ثمة أسوأ ممن يصور الناس بصور سيئة في الوقت الذي يقول فيه إنه يحمي أخلاقهم ويدافع عن ثوابتهم ، ليقيم مجتمع الفضيلة ! مع وجود منظومة من القيم الدينية والمجتمعية التي يمكن أن يُربى عليها الأفراد ليحافظوا على النسق الأخلاقي للمجتمع دون اللجوء إلى اتهامه . كتب أحدهم إن (عمل المرأة بائعة أسوأ من عملها في كثير من المجالات، لأنها تواجه المشترين طول وقت الدوام الطويل، ومعلوم أنه لا يخُتار لهذا المقام من النساء إلا من تتوافر فيها اللياقة البدنية وحسن المظهر واللطف في التعامل، وفي المشترين أصناف من ذوي القلوب المريضة والعيون الباحثة عن المناظر الجميلة، وأغلب الظن أن الحجاب محرم عليها في عملها هذا، اللهم إلا في هذه المرحلة، عملًا بسنة التدرج) . وبغض النظر عن لغته القاطعة بإلزام تلكم النسوة بعدم ارتداء الحجاب الذي لا ندري على أي أساس أكده وكل من رأى تلك العاملات أكد تمسكهن بالحجاب والنقاب ، فإن هذا لا يعني سوى أن الرغبة في التشويه والتشويش على مصدر رزق تلكم النسوة المحتاجات تجعله يرسل الكلام على عواهنه دونما دليل ، ولعلنا نسأله أيضا : ماذا عن اختلاطها بباعة ملابسها الداخلية ؟ وماذا عن الكلمات التي تلقى على مسامعها من قبل أولئك الرجال عند عرض بضاعته عليها ؟ ثم أليس فيهم من هو على درجة من الوسامة يختاره أصحاب تلك المحلات بعناية حتى يضمنوا إقبال النسوة على دكاكينهم ؟ ثم أليس من أولئك الباعة أصناف من ذوي القلوب المريضة والعيون الباحثة عن المناظر الجميلة ؟؟؟؟ ثم ألا يرى أولئك اختلاطا محرما إلا عندما تجلس المرأة على كرسي المحاسبة ، أما أن يجلس الرجل ويتعامل مع عشرات النسوة في اليوم فليس حراماً ؟ أتدرون لماذا ؟ لأن الحرام حصر في المرأة فقط وفي كل ما تؤديه من عمل خارج الحدود التي رسموها لها ، لقد وسعوا دائرة الحرام فلم يتركوا مجالا للكراهية وغيرها من الأمور ، إذ ليس هناك سوى أمرين لا ثالث لهما حرام وحلال فقط !! وهم إذ يحرمون عمل المرأة في البيع والشراء إنما يتجاهلون تلك النماذج النسوية التي باعت واشترت في صدر الإسلام ولم يقل لها أحد ما تفعلينه حرام ، لأن نظرتهم للمرأة كانت أكثر رقياً وواقعية عما يحدث في مجتمعنا الآن في النظرة المريضة إلى المرأة وقضاياها فجعلوها كالداء المستعصي الذي لا شفاء منه إلا بموت المريض !!! عندما يوقن الناس أن التشكيك في أخلاقهم هو السلاح الذي يُشهر في وجه أي جديد ، وعندما يرفضون تصويرهم بالذئاب التي تتربص بالنساء ، فذلك هو الوعي الحقيقي الذي يزعزع تلك النظرة القاصرة التي تصم الناس بما ليس فيهم بما يكشف عن زيف ذلك الادعاء ونفعيته ، ولذا ينبغي أن تسارع النخب إلى طرح خطاب مضاد يعزز الثقة في سلوك المواطنين وأخلاقهم ، ويعمل على تفكيك الأفكار المتزمتة والصور الذهنية الجاهزة التي تشكك في سلوك الأفراد ، وإفساح المجال للأشخاص ذوي الرؤى التنويرية لتفعيل أفكارهم من خلال الممارسات الحية ، للتأكيد على أنهم ليسوا في الصورة البشعة التي يجري حشرهم فيها ، لتكون ذريعة لمناهضة الجديد ثم لابدّ من إدماج مناهج التفكير النقدي والتحليلي في مناهج التعليم حتى نزرع بذور الشك والتساؤل في عقول الطلاب ، لنبني أساسا متينا يقوم بفلترة ما يُلقى عليهم ، حتى لا يكون كل ما يسمعونه مسلّمات غير قابلة للرد . إنه إن كان هدف هؤلاء هو تحقيق النقاء للمجتمع ونبذ ما يشوّهه ، فيجب عليهم إيجاد حلول عملية من واقع حياتنا المعاصرة وليس من ردهات الماضي؛ فسياسة المنع والتضييق والتحريم لا تخلق مجتمعاً فاضلاً بقدر ما تنتج أفراداً مرتبكين وجِلين من مواجهة النساء في المستويات العامة ، ولعل هذا ما يفسر تورط بعض مواطنينا الصغار في قضايا سلوكية لدن احتكاكهم بالنساء في الخارج نتيجة جهلهم بأبسط أساليب التعامل المنضبط معهن !