لماذا يستهدف مسيحيو العراق؟ وما هي عواقب ذلك على العرب والمسلمين؟ وما هو السبيل إلى مجتمع متعايش؟ بدايةً، يجب التأكيد على حقيقة أن مسيحيي العراق، والشرق عامة، هم جزء أصيل من حضارة وتاريخ هذه المنطقة.إنهم جزء لا يتجزأ من نسيجها الاجتماعي والثقافي. ويمكن النظر إلى كل استهداف لمسيحيي الشرق باعتباره محاولة لأخذهم بعيداً عن جذورهم ومحيطهم العربي. إن هذا الاستهداف يفتت النسيج الاجتماعي للأمة ، ويفتح الطريق لمزيد من التدخلات الخارجية في شؤونها، ويعرضها لمزيد من الانكشاف الأمني والاستراتيجي. لقد كان على النخبة المتنورة أن تذكّر على نحو دائم بأن الحضارة العربية قد نهضت على سواعد المسلمين والمسيحيين سوية. وهذا لا يرتبط بالتاريخ فقط، بل بالحاضر أيضاً. إن طريق التعايش الإسلامي - المسيحي في الوطن العربي، يبدأ بتعايش المسلمين فيما بينهم. وتأكيدهم على المشترك القومي الذي يربطهم بالمسيحيين العرب. وإدراك حقيقة أن الأرض لجميع ساكنيها، وأن الحصاد لكل من زرع ومن بمقدوره يا ترى تصوّر الآداب والفنون والمعرفة العربية الراهنة بمنأى عن المسيحيين العرب؟! وقبل ذلك، أليس مسيحيو الشرق شركاء المسلمين في التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وسائر الحياة العامة، وكل منهم مواطن أصيل في بلاده؟ ولعل الكثير من أبناء الجيل العربي الراهن لم يعش تلك التجربة التي انخرط فيها المسلمون والمسيحيون في تيارات سياسية عريضة، حملت على عاتقها الدفاع عن حرية الأمة وكرامتها، وقدمت قوافل الشهداء في سبيل هذه الرسالة. وقد تكون النزعة الإقليمية قد ساهمت هي الأخرى في حجب رؤية الكثير من العرب عن حقيقة التنوّع الاجتماعي والثقافي الثري الذي تعيشه هذه الأمة. أما أولئك المروجون للنزعات المذهبية الشريرة، والساعون لتقسيم المسلمين وزرع الفتن بينهم، فليس بالمستغرب عليهم أن ينظروا لمسيحيي الشرق نظرة إقصائية، لا تراهم سوى من زاوية اختلافهم وتباينهم. وهنا، نعود للعراق تارة أخرى. إن بلاد الرافدين، التي وهبت البشرية بعضاً من أبرز علماء الاجتماع المعاصرين، أمثال علي الوردي، لم تكن يوماً بلاداً طائفية أو مذهبية. ولم نكن نحن العرب نرى في العراق خطوطاً لتقسيمات اجتماعية، مستندة إلى أساس طائفي أو مذهبي. ولم يكن المواطن العربي يشعر حين زيارته للعراق سوى أنه بين ربوع جزء عزيز من أمته، يشكل الانتماء للوطن والأمة هوية وحيدة لكافة أبنائه. هذا صحيح بالأمس، وهو لا زال صحيحاً اليوم أيضاً. وعلى الرغم من ذلك، فقد نشطت في السنوات الأخيرة بعض المجموعات الاقصائية، المشبعة بالغلو والتطرف، محاولة تقسيم العراقيين، وفرزهم قسراً على أساس مذهبي. لم تنجح هذه المجموعات في تسويق رؤيتها بين الناس، لكنها نجحت، بقدر أو آخر، في محاصرة واقعهم الأمني وإرباك حياتهم العامة. اليوم، انحسرت مجموعات العنف المذهبي بفعل وعي الإنسان العراقي، الذي رفض أن يكون حاضنة لها.إلا أن هذه المجموعات لا تزال حاضرة على أية حال. وهذه المجموعات هي التي نفذت التفجيرات الإجرامية بحق الأماكن الدينية منذ العام 2006. وهي ذاتها التي احتجزت وقتلت المدنيين العزل داخل الكنيسة الآشورية في بغداد، نهاية تشرين الأول/ أكتوبر الماضي. وهنا، يجب التأكيد، على نحو صريح، على حقيقة أن الفكر الاقصائي، الذي يرى في الآخر هدفاً مشروعاً للقتل، لا يمثل خطراً على العراق وحسب، بل على كافة العرب والمسلمين. ما هو المطلوب عمله؟. عراقياً، لابد بدايةً من التأكيد على أولوية الوصول إلى مقاربة ناجزة لخيارات التصدي والاحتراز الأمني، المعتمدة من قبل الأجهزة الرسمية العراقية، فالأحداث المتتالية في البلاد، وخاصة في العاصمة بغداد، تكشف عن أن هناك معضلة لابد من تجاوزها. إن الجميع يعي أنه بات لدى العراق العديد من الأجهزة والتشكيلات العسكرية والأمنية، التي تضم في مجموعها حوالي المليون عنصر. وعلى الرغم من ذلك، فإن المشكلة لا تكمن في العنصر البشري، بل في غياب تكنولوجيا المعالجة والاحتراز الأمني، الذي يمكن الاستناد إليه في مواجهة الواقع القائم، المليء بالمخاطر. ومن ناحية مبدئية، فإن العراق بحاجة إلى مروحيات استطلاع قادرة على تغطية كافة مناطقه الساخنة، وحدوده الدولية. كما تلزمه مصفوفة رادارية حديثة، مدمجة في منظومة دفاع وتعقب للعاصمة بغداد، ترتبط بها دوريات في البر والجو والمياه النهرية ؛ بحيث يُمكنها رصد ومتابعة والتعامل مع الأجسام المتحركة، من خلال غرفة عمليات موحدة. كذلك، يحتاج العراق إلى أجهزة تشخيص وكشف حراري متطوّرة، يُمكن استخدامها على نحو مكثف، إنما بسلاسة وبصورة غير معرقلة للحياة العامة. وفي حقيقة الأمر، فإن العديد من التفجيرات الدامية التي شهدتها بغداد كان بالمقدور مبدئياً منعها، لو كان لدى العراق تكنولوجيا معالجة واحتراز أمني متقدمة. إن الدولة العراقية معنية بوضع هذا الأمر في صلب أولوياتها، كما أن الدول العربية مطالبة بدعم العراق على هذا الصعيد، خاصة عبر تمويل بعض مشترياته ذات الصلة. وإضافة إلى ما يجب اعتماده على المستوى الأمني، فإن العراق معني ببذل كافة الجهود اللازمة لتطويق ثقافة الغلو والتطرف المذهبي، التي تسعى بعض المجموعات الجانحة لغرسها بين أبنائه. إن المطلوب تجريم الخطاب المذهبي، وفرض قيود وجزاءات قانونية بحق ممارسيه. إن بعض الأقطار العربية تفصل الطالب من مقاعد الدراسة، عندما يتحدث بين زملائه بلغة مذهبية، أو يوصّف نفسه توصيفاً مذهبياً. وحري بالعراق هو الآخر أن يسير في هذا الاتجاه، لأن هناك الكثير ممن يتربصون شراً بوحدته الوطنية. ودعونا نقلْ على نحو واضح، إن احتجاز وقتل المدنيين العزل في الكنيسة الآشورية في بغداد قد استهدف، بالدرجة الأولى، ضرب وحدة العراق الوطنية، وزرع المزيد من الفتن بين أبنائه. وكان الهدف الشرير ذاته حاضراً، على نحو لا يقبل التأويل، في سلسلة التفجيرات التي شهدتها العاصمة العراقية يوم الثلاثاء، الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر. والتي راح ضحيتها مئات المدنيين بين قتيل وجريح. ما الذي يجب عمله عربياً؟. من وحي الحدث العراقي، وفي ظل دروسه، تبدو الحاجة لإعادة تعريف المجتمع العربي بما هو مجتمع تعددي، يتكون من أغلبية مسلمة وأقلية مسيحية بالدرجة الأولى، تتعايش فيما بينها استناداً إلى القواسم القومية المشتركة، ووحدة الإطارين التاريخي والحضاري. وإذا كانت الثقافة الإقليمية التي سادت مناطق عربية مختلفة، قد أثرت على نحو سلبي في وعي الجيل العربي الراهن، فإن المطلوب اليوم هو تعزيز الحس الوحدوي، عبر تنمية الوعي بمضامين وقيم الوحدة. وزيادة منسوب التفاعلات العربية العابرة للدول والأقاليم. وتأكيد التعاون والترابط بين مؤسسات المجتمع المدني العربي في سائر أقطاره. وعند هذه النقطة، تتراجع النزعات الإقليمية في وعي الأفراد، ويزداد إدراكهم للقواسم المشتركة، ويتعزز لديهم الشعور بوحدة الانتماء. ما هو المطلوب على الصعيد الإسلامي؟ وعلى الصعيد الإسلامي، يجب التشديد على حقيقة أن الدين لا يقبل القسمة على اثنين أو خمسة. وأن الإسلام لا يجوز تفصيله وفقاً لتموضع الفئات المختلفة، بل هو دين واحد له أصول واحدة لكافة أتباعه. ومتى أكد المسلمون على مبدأ الوحدة والألفة فيما بينهم، وسادتهم الروح المتآخية، فإنهم يغدون قادرين على التعايش مع الآخر. وفي المقدمة منه ذلك الذي تجمعهم به الروابط القومية، ووحدة الإطارين الحضاري والتاريخي، ناهيك عن الوحدة الترابية والوطنية. إن طريق التعايش الإسلامي - المسيحي في الوطن العربي، يبدأ بتعايش المسلمين فيما بينهم. وتأكيدهم على المشترك القومي الذي يربطهم بالمسيحيين العرب. وإدراك حقيقة أن الأرض لجميع ساكنيها، وأن الحصاد لكل من زرع. وأن الله يمد هؤلاء وهؤلاء من فضله. إننا معنيون بتقديم صورة مشرقة لتعايش وتكاتف المسلمين والمسيحيين في هذه المنطقة من العالم. ولتكن هذه هي رسالتنا لكافة شعوب الأرض.