مقالات التأبين التي نقرأها في الصحف العربية لعدد من مفكري العالم العربي الذين رحلوا عن عالمنا مؤخرا من أمثال (الجابري _ نصر أبو زيد – أحمد البغدادي – وأخيرا أركون)تحمل نبرة جنائزية متفجعة وكأن العالم العربي سيضل طريقه دونهم ، وسيخبو ضوؤه دون طروحاتهم ، وسيتداعى المشروع النهضوي ، والمسيرة التنويرية التي هي عموما بطيئة وحذرة ستتوقف تماما وتعجز عن مواصلة دفعها لمركبة المستقبل العربية المتهالكة والمتعثرة . لكننا بالمقابل نجد أن هذا الرثاء المتفجع يتقاطع مع الجدلية التاريخية العلمية ذات الطابع المتفائل المؤمن بالإنسان وقدراته التي لاتنضب ، والتي تثبت ايضا أن الصيرورة التاريخية في صيغتها المتبدلة تظل تندفع إلى الأمام مهما كانت المنعطفات التاريخية صعبة ومعوقة . فالأسماء السابقة لم تنشأ من فراغ أو تبزغ من العدم ، ولم تكن مشروعاً أوروبيا خالصا جُلب من الخارج واستزرع في العالم العربي لأهداف استعمارية كما يتم فهرستهم داخل الكثير من الأوساط . بل هم امتداد لمسيرة نهضوية قديمة طويلة امتدت على طوال قرن من الزمن لها تعثراتها وكبواتها، وإنجازاتها وانتصاراتها، أيضا ابتدأ من جمال الدين الأفغاني وعبدالرحمن الكواكبي صاحب المقولة الشهيرة(الاستبداد هو أس كل بلية) مرورا بطه حسين وعلي عبدالرازق وصولا إلى زكي نجيب محمود وفؤاد زكريا - والأسماء السابقة للتمثيل لا الحصر – لكن جميعها رموز فاعلة ومؤثرة في تاريخ الفكر العربي والثقافة العربية الحديثة ، وجميعها تؤمن بقيم التنوير وتنطلق من مفاهيم فلسفية متقاربة تحلم بإدخال العالم العربي إلى عصر المدنية الحديثة والمعاصرة بجميع شروطها ومتطلباتها . والأرضية المشتركة التي تقف عليها هذه الأسماء مع سابقيهم ممهدي الطريق لمركبة التنوير في العالم العربي متقاربة تنطلق من ثلاث قيم فلسفية كبرى وهي (أولا :نقد الدوغمائية اللاهوتية – ثانيا : غرس مفاهيم الفكر النقدي والفلسفي وإعمال أدوات التفكير والتساؤل القائم على البحث والشك _ والثالث : مقاربة التراث وفق مناهج علمية ونظريات تاريخية تؤمّن فهماً أوسع وأكثر شمولية لذلك التراث).. السابقون واللاحقون في المسيرة التنويرية جميعهم ينطلقون من المفاهيم السابقة (مهما اختلفت الأذرع التنفيذية) . ويؤمنون بها كسبيل أوحد لمحاربة أمراض العالم العربي من الاستبداد ، والفساد ، والصراع الديني والمذهبي القائم على تصفية المختلف ، ويتوسلون بها كشرط لدخول المدينة الحديثة بكل متطلباتها. لذا فالنبرة المتفجعة في تأبين الأسماء السابقة يغلب عليها الطابع العاطفي الانفعالي (مع احترامنا الكبير لمنجز الراحلين) ، لكن يحدث هناك انقطاع تاريخي في المسيرة التنويرية في العالم العربي فالأرض حبلى والمشهد يحتشد بطاقات الضوء وعلامات الطريق التي تشير نحو المستقبل . *** *** *** في الفيلم الذي يعرض حاليا في دور العرض للممثل ليوناردو دي كابريو inception هناك جملة وردت في الفيلم يقول فيها (إنها فقط بذرة إذا زرعت في الدماغ سيغذيها الوقت وستنضجها التجربة لتتحول إلى غابة من الأفكار) .