حين يندلع حريق في مكان تتكدس فيه مواد قابلة للاشتعال، وتهرع فرق الإطفاء مسرعة لمحاصرته وإخماده، وتتم السيطرة على الحريق بأقل قدر من الخسائر، فإن ذلك يخلق شعوراً بالارتياح، ليس رضا باندلاع الحريق، فذلك ما لا يتمناه عاقل، لكن مبرر الشعور بالارتياح، هو النجاح في السيطرة على الحريق ومنعه من الانتشار وتقليل خسائره، والاستفادة من تلك التجربة الناجحة في الوقاية والعلاج لما قد يحصل مستقبلاً. وهذا ما شعرت به حين تابعت تداعيات الكلام السيئ للنائب العراقي بهاء الأعرجي تجاه الخليفة أبي بكر. فهو كلام مرفوض مدان، في مضمونه وتوقيته، ومن الطبيعي أن يثير حالة امتعاض واحتجاج، خاصة في الساحة العراقية، المثخنة بالجراح الطائفية، والمكشوفة أمام الإرادات الدولية والاقليمية. كان يمكن لتلك العبارة السيئة أن تكون فتيل إشعال فتنة كبيرة، وأن تتحول إلى حريق هائل، تطال شرره مختلف الأنحاء، خاصة مع وجود متطوعين كثر، يحترفون دور صب الزيت على نيران الفتن. لكن الله سلّم، وتمت محاصرة الفتنة ووأدها في زمن قياسي، حيث بادرت الجهات الرسمية في العراق لاتخاذ موقف حاسم واضح، من خلال مجلس الوزراء العراقي. والذي دان تلك التصريحات في بيان رسمي واعتبر أنها (تتعارض مع الإرادة السياسية والشعبية في تعزيز الوحدة الوطنية والالتزام بالدستور واحترام عقائد المسلمين وجميع الأديان والمذاهب) وأضاف البيان: (ان هذه التصريحات تشكل خرقاً للمادة السابعة من الدستور التي تحظر مثل هذه التصريحات وتعرض من يروج لها بالحرمان من المشاركة السياسية). كما تراجع النائب الأعرجي في اليوم التالي مباشرة عن تصريحاته وهذا هو الشيء المهم، حيث أدرك خطأه وما أصر عليه، بل سارع إلى تبرئة نفسه من قصد الإساءة للخليفة أبي بكر، ولأي من صحابة رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم ". وقال حسبما نقلت عنه جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 3 ربيع الأول 1431ه 17 فبراير 2010م: (أنا وجميع أبناء الخط الصدري بوصفنا مسلمين لا نسمح بالتطاول على شخصية إسلامية كخليفة الرسول الأعظم) وأضاف: (أنا لم اتجرأ ولم أتكلم بأي صيغة تسيء إلى سيدنا أبي بكر، وإذا سمحوا هم بذلك فأنا لن أسمح لنفسي به). ونشرت عنه وكالة أصوات العراق بتاريخ 16 فبراير 2010م قوله: (لم أتعرض لشخص الصحابي أبي بكر الصديق، لأن انتمي إلى الخط الصدري الإسلامي الذي يحترم كل صحابة الرسول الأعظم، ولا يستطيع أحد من أبناء هذا التيار المساس بشخصية الصحابي أبي بكر الصديق أو أي من الصحابة). وقال الأعرجي في اتصال مع الجزيرة نت كما جاء على موقعها بتاريخ 17 فبراير 2010م: (إنه قدم طلباً لهيئة المساءلة والعدالة للتدقيق في أقواله، واتخاذ الاجراءات القانونية ضده إذا ثبتت صحة الاتهامات الموجهة إليه) وقال: (إنه ينتمي إلى أبناء التيار الصدري الذين قاتلوا مع أبناء الفلوجة ضد الاحتلال الأمريكي ولا يمكن أن يسمح لنفسه بالإساءة إلى صحابي جليل مثل الخليفة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -. وقد قمت شخصياً بالاتصال بمكاتب بعض المراجع والجهات الدينية في العراق، طالباً منهم اتخاذ الموقف اللازم والاجراءات المطلوبة لوأد الفتنة، فأكدوا لي متابعتهم للموضوع وتحركهم لتطويقه. ولا شك أن مسارعة الشخص نفسه للتراجع، والتبرؤ من الاساءة ثم وصفه للخليفة أبي بكر بعبارات لائقة جميلة، كانت موقفاً إيجابياً مساعداً على تهدئة النفوس، ونزع فتيل الفتنة. كما أن إدانة الجهات الرسمية أزالت أي شعور بالتواطؤ والانحياز، ووضعت القضية في حجمها كتصرف فردي يتحمل الشخص تبعة كلامه، ولم يدافع عن خطئه أو يسانده أحد من طائفته لتأخذ القضية منحى الاصطفاف الطائفي. بيد أن بعض الجهات ما زالت تثير موضوع هذه التصريحات السيئة لإدامة تفعيل آثارها السلبية في الساحة، وتطالب القيادات الشيعية بإدانتها، وهو مطلب محق لو لم يتراجع الرجل عن تصريحاته، ولو لم تتخذ الجهات الرسمية في العراق الموقف المطلوب تجاهه، أما بعد وأد الفتنة في مهدها فقد كفى الله المؤمنين القتال. إن ما حدث يشكل درساً يجب الاستفادة منه لوأد أي فتنة طائفية، فأولاً: لا بد من رفع الغطاء السياسي عن أي مثير للفتنة بإدانته وتجريمه. وثانياً أن يتحرك الواعون من الجهة التي ينتمي إليها لنصح من يصدر منه قول أو موقف مثير للفتنة حتى يتراجع عن ذلك. فالرجوع عن الخطأ فضيلة. ثالثاً: الحذر من الوقوع في فخ الاصطفاف الفئوي بالدفاع عن الخطأ ليبقى في دائرته الضيقة. وستبقى ساحتنا الإسلامية معرضة لمثل هذه الحوادث السيئة؛ لأن في تاريخ المسلمين وتراثهم المذهبي سنّة وشيعة ما يغذي مثل هذه التوجهات الطائفية، وما يشجع على التشدد والتطرف المذهبي. كما أن هناك جهات خارجية وداخلية مغرضة تعمل على إشغال المسلمين بالصراعات والخلافات خدمة لمصالحها وأجندتها السياسية. إن ذلك يجب أن يدفعنا على الصعيد الوطني، وعلى مستوى الأمة، لبذل جهد في الوقاية والتحصين، بتفعيل مبدأ المساواة وحاكمية القانون، وتجريم أي إساءة أو إثارة للنعرات والعصبيات، ونشر ثقافة الحوار والتسامح. وعلينا ألا نحمّل أي طائفة أو جماعة وزر التصرفات الفردية، وخاصة من الأفراد الذين لا يمثلون موقعاً ولا ينتمون إلى جهة مسؤولة. وأشير هنا إلى أن بعض المواقع تتداول تصريحات سيئة بذيئة للسيد مجتبي الشيرازي تحت عنوانه أنه مرجع شيعي إيراني، وهي تصريحات لا تستحق الوقوف عندها ولا الرد عليها لفرط بذاءتها وقبحها. ولكن ما ينبغي التنبيه إليه هو العنوان التضليلي الذي تعطيه هذه الجهات للمتحدث، فهو ليس مرجعاً ولا يدعي المرجعية، وهو هارب من إيران، ولاجئ مقيم في بريطانيا، ويكفّر حتى مراجع وعلماء الشيعة، كالخوئي والخميني والخامنئي والمنتظري وبهجت وغيرهم، وتصريحاته حولهم قاسية بذيئة وهي موجودة على الإنترنت. إنه لا يمثل إلا نفسه، ولا موقعية ولا تأثير له على الساحة الشيعية، لكن بعض الجهات المغرضة تتعمد التضليل لإثارة الفتنة.