يتغيّر العالم ومعه يتغيّر المعنى الثقافي. العالم المتغيِّر الذي نعيش فيه تهيمن عليه، بصورة أساسيّة، التكنولوجيا والنزعة إلى الاستهلاك والمردوديّة المادية. حتى المجالات الإبداعية التي انتشرت في القرون الماضية، خارج معادلة الكمّ، أصبحت اليوم بائدة أو مهدّدة بالانقراض أمام المنطق التجاري الذي يتدخّل في كلّ مراحل الإنتاج الثقافي. من علاقة الإبداع بالمال، لا سيّما في مجال الفنون التشكيليّة، وما يتبع ذلك من عمليات تسليع واستهلاك، إلى علاقة الفنون بالعلوم والتقنيات الحديثة، لا يمكن النظر إلى الثقافة المعاصرة بدون الالتفات إلى الأثر الذي تتركه في حياتنا وفي سلوكنا بعض الإنجازات العلمية ووسائل الاتصال ومنها بالأخصّ الشاشة الصغيرة والإنترنت والهاتف المحمول. فهل أخذنا في الاعتبار التطوّر التقني والتكنولوجي ومنجزاته وأثره في مجالات الإبداع المختلفة؟ الشاعر الفرنسي رامبو، ابن القرن التاسع عشر، تحدّث في إحدى قصائده عن ألوان الحروف. الآلة تظهر لنا اليوم شكل هذه الأحرف وشكل الذبذبات الصوتية، وتقترب من فهم منطق الطير وسلوكه، بل تذهب أبعد من ذلك وتجعلنا نرى ولادة النجوم وموتها، وتدخلنا إلى طبيعة الخلايا والجينات، وتعرف ما في داخل الأرحام! هناك عدد متزايد من الفنّانين أدخل النواظم المعلوماتية في صياغة نتاجهم وتكوينه. لكن أيقتصر تأثّر الفنون بالعلوم إلى هذا الحدّ، أم يذهب أبعد من ذلك إلى حدّ طرح السؤال الذي يشغل بعض البحّاثة والمتتبّعين: "ما مستقبل الرؤية الفنية في ظلّ تقنية تكاد، أحياناً، أن تنسخ الحلم؟". مفهوم الجغرافية نفسه يتغيّر. ثمة فضاءات جديدة تولد كلّ يوم مع الشركات والمؤسسات العالمية التي تعتمد على التقنيات والعلوم الحديثة وتتحرّك عند حدود الواقع والافتراضي وتتبدّل معها طريقة التعامل مع الوقت والمسافات. مع هذه الجغرافية الجديدة يولد نوع آخر من السيطرة يطالعنا من خلال كيفية التحكّم بالاقتصاد والتكنولوجيا والإعلام. في القرن السادس عشر تداركت الثقافة الأوروبية تأخّرها عن حضارات أخرى وانتقلت في القرن السابع عشر إلى مرحلة أخرى تجاوزت فيها الثقافات التي ظلّت متجمّدة في أنساقها وتقاليدها. أسهمت في ذلك ظروف عدّة منها الغزو (اكتشاف أميركا) والاستعمار، ومنها الظروف الاقتصادية المستحدَثة، وأيضاً الحيويّة الثقافية التي تجلّت بالأخص في القرن الثامن عشر مع مفكرين وفلاسفة وضعوا أسس الفكر الحديث القائم، في المقام الأول، على العقلانية والفكر النقدي. جان بول سارتر كان بزوغ العصر الصناعي في الغرب وسيطرة الإنسان أكثر فأكثر على موارد الطبيعة مرادفين، في نظر بعض المفكرين الغربيين، للتقدّم والازدهار. كان ثمة وعد بخلاص للبشرية بدأ يلوح منذ عصر الأنوار، وطالما تحدث عنه مفكّرو ذلك العصر وفلاسفته. لكن الوعد لم يتحقّق، والتطور التقني والتكنولوجي، في المرحلة الأخيرة من الثورة الصناعية، والذي أحدث تغيّراً جذرياً في مسار التجربة الإنسانية، لم يكن مصدر خلاص للإنسان، ولم يساعد على ابتكار أنظمة وأنساق جديدة توجّه علاقات البشر في ما بينهم على أسس الحرية والعدالة. بخلاف ذلك، ظلّ شبح الحروب ماثلاً، بل ظلّت الحروب قائمة وزادت نسبة الفقر والتخلف في العالم الثالث، وكذلك التعصب القومي والديني، في موازاة زيادة عدد السكان. مع نهاية زمن الاستعمار ونيل دول العالم الثالث استقلالاتها الوطنية، تخلّى الغرب عن موعده مع الحضارات الأخرى. أراد أن يفرض نظرته إلى العالم بحسب مفاهيمه ومصالحه، فيما أرادت بعض الشعوب الأخرى أن تتقاسم المعارف والتقنيات من دون أن يؤدّي ذلك إلى محو الفروق الثقافية، لكن ذلك لم يحدث. لم يُسمَح، في أغلب الأحيان، أن يحدث. لقد ظنّ الغرب أنّ نهاية الحرب الباردة هي نهاية لتاريخ وبداية لتاريخ آخر يتمثل في الرأسمالية المنتصرة. غاب عن المنتصرين أنّ إقصاء قسم من البشرية على حساب الآخر لا يمكن أن يولّد إلا مزيداً من الحروب والأهوال والعنف. ثمة هوّة تزداد اتساعاً بين التقدّم العلمي والتكنولوجي من جهة، والنزعة الإنسانية من جهة ثانية. من هنا دعوة بعض المفكّرين الغربيين، المهمَّشين في الغالب، إلى أنسَنَة العالم والأرض وجعل صورة التقدّم العلمي تتناسب وصورة التقدّم الإنساني. أمام التحوّلات الكبيرة والمتلاحقة التي يشهدها العالم اليوم، ثمة حاجة إلى إعادة نظر في توجّهات الحقول الثقافية والمعرفية كلّها، فكراً وفلسفة وشعراً وفنوناً وعلوماً. إذا كان السؤال مطروحاً بحدّة في الغرب، فكيف الحال في العالم العربي؟ من المعروف أنّ بنية العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والثقافية عامّة هي، عندنا، بنية متخلّفة، لكن كيف يمكن الانتقال بها إلى بنية متقدّمة؟ هل أنتجنا فكراً جديداً نواجه به الواقع الراهن؟ أين المضامين الفكرية لمفاهيم الحداثة عندنا؟ ما هو المستوى التربوي والتعليمي في المنطقة العربية، لا سيما التعليم الجامعي، وأين نحن على خريطة المعرفة العالمية؟ ما مدى الحيّز المخصّص، نظرياً ومادياً، للبحوث العلمية وللتكنولوجيا؟ أين القانون المدني الذي يحمي المواطنين والمثقفين (أصحاب الرأي الحرّ) ويحاكم المحرّضين على القتل؟ هذه الأسئلة تستتبع سؤالاً جوهرياً: ماذا تُعدّ مجتمعاتنا لنفسها من أجل مواجهة التحدّيات الكبرى المتعاظمة (الآتية من الداخل والخارج معاً)، ومن أجل بلوغ حوار متكافئ مع الثقافات الأخرى؟ إنّ ازدياد التطرّف، في أيّ مكان في العالم، يمثّل انعكاساً لأزمات متفاقمة ولحالة مَرَضيّة. التطرّف يلغي الحوار وهو، مثل القهر والظلم، يعمّق الإحساس بالمنفى. كلمة منفى، هنا، لا تنحصر فقط في معناها الجغرافي بل تتجاوزه أيضاً لتتخذ المعنى الذي حدّده الفيلسوف الفرنسي جان- بول سارتر بقوله إنّ المنفى هو حين يضيّع الإنسان مكانه في العالم. يمكن الثقافة، بمعناها العميق، أن تشكّل هويّة حميمة للإنسان، ويمكن أن نحقّق عبرها ما نعجز عن تحقيقه في المجالات السياسية والعسكريّة، لأنّ الثقافة من العوامل التي تجمع وتوحِّد لما تنطوي عليه من قيم إنسانية وجماليّة ومن قواسم مشتركة بين الشعوب. الثقافة لا تنحصر فقط بالفنون الجميلة والإصدارات، بل هي أيضاً تعبير عن موقف وعن سلوك، وهي طريقة في التفكير ونظرة إلى الحياة والعالم. إنّها كذلك ممارسات ومعايير ترسم معالم ثقافة شعب ما وتسهم في تحديد هويّته. الشيخة مي بنت محمد آل خليفة أمّا النموّ الثقافي (ضمن التوجّهات الجديدة التي سبق أن أشرنا إليها) فهو أحد شروط النمو الاقتصادي أيضاً. كشف معهد اليونسكو للإحصاء في السنوات الأخيرة كيف أنّ الدول النامية هي الخاسر الأكبر في تجارة المنافع والخدمات الثقافية والتي تتمثّل في الكتب والصحافة المكتوبة والإعلام السمعي- البصري والأفلام والنتاجات الفنية (لوحات، محفورات، منحوتات أصلية أو نسخ عنها)، والأسطوانات المدمّجة وألعاب الفيديو... تشير المعطيات إلى الدور المركزي للثقافة في حركة التنمية الاقتصادية، فالثقل الاقتصادي لقطاع الصناعات الثقافية والإبداعية بات يقدَّر سنوياً ببلايين الدولارات وهو ينمو بشكل مطرد. ساعدت في ذلك أنساق العولمة التي فتحت إمكانات جديدة على مستوى النشر والتوزيع على مستوى العالم أجمع. إنّ عدم الدخول في تلك الأنساق يجعل الصوت الثقافي لدول كثيرة، ومن ضمنها الدول العربية، مهدداً بالتهميش والعزل، في حين تتقدم في هذا المجال بريطانيا والولايات المتحدة والصين وألمانيا وفرنسا وإسبانيا وكندا... ومعها يتقدّم نمط ثقافي محدَّد ويطغى، برموزه وقيمه، على ما عداه من أنماط ثقافيّة أخرى. لكن أن تتحرّك الأنماط الثقافية الأخرى وتجد لها مكاناً تحت شمس العصر، فهذا يعني أن تسعى إلى الخروج من تبعيّتها التي وجدت نفسها فيها لأسباب ذاتية وموضوعيّة. يعني أيضاً تهيئة المناخات اللازمة لنموّ الفكر العقلاني والحسّ النقدي، وذلك لا يستقيم بدون حرية الأفراد وحرية العمل الثقافي في إطار من الديموقراطية وحقوق الإنسان، أي الانتقال من زمن الاستبداد السياسي وما يواكبه من غيبيّات وتطرّف وفتاوى وتحريم إلى زمن الدولة الحديثة والقوانين. الفكر النقدي هو الذي يرسم الحدود الفاصلة بين قديم وحديث، بين نتاجات إبداعية تحمل في ذاتها إضافات إلى ما سبقها، ونتاجات تراكمية لا معنى لها على الإطلاق. في غياب هذا الفكر لا ينقطع التواصل مع الحاضر والآتي فقط، وإنما أيضاً مع الماضي، فيصير الماضي، في هذه الحالة، كُتلة "مقدّسة"، ملجأً للانغلاق والتقوقع بدلاً من أن يكون، في جوانبه المضيئة بالطبع، منطلقاً لاستشراف المستقبل. بهذا المعنى، يعيش أصحاب تلك النتاجات انقطاعاً معرفياً متعدد الأوجه، مع ثقافتهم ومع الثقافات الأخرى على السواء. الحوار الثقافي قدر الشعوب وخلاصها وإلاّ ظلّت الحروب هي التي تكتب التاريخ. يقول الطبيب وعالم البيولوجيا الفرنسي الحائز على جائزة نوبل في الطبّ فرنسوا جاكوب في كتابه الرائع "لعبة الممكنات": "ليست المصالح الخاصّة وحدها هي التي تدفع الناس إلى التقاتل، بل أيضاً كلّ ما هو قائم على الجزم المبرم والقاطع. لا شيء أشدّ خطراً من اليقين بأننا على حقّ. لا شيء يسبّب خراباً يوازي التشبّث بحقيقة يتمّ النظر إليها بوصفها هي الحقيقة النهائيّة والمُطْلَقَة. كلّ جرائم التاريخ كانت نتيجة لتعصّب ما...". لغة الحقد هي السلاح الأمضى من الأسلحة كلّها. وهي لغة خبيثة تعرف منذ أقدم العصور كيف تتنكّر وتختبئ وراء أقنعة مختلفة. تنادي بالحبّ فيما هي تفرّغ كلمة حبّ من محتواها، وتتحدّث عن الشرف فيما هي تقترف باسمه أبشع الجرائم، وبالأوطان حين تصبح الأوطان عذراً للحروب. مستبدّة هي لغة الحقد ولا ترحم، غرائزية وبسيطة ولا يستدعي اعتناقها جهوداً كبيرة، ولذلك فإنّ نارها شديدة الاشتعال والانتقال. أمّا لغة الحُبّ فتتطلّب استعداداً وجهوزيّة ومناعة، وهي تحاول دائماً إصلاح ما أفسده الإنسان وما تصدّع في داخله. "رهان الثقافة" هو الشعار الذي أطلقته الشيخة مي الخليفة على أحد مواسمها الثقافيّة، والثقافة هي، بالفعل، رهان. إنّها مغامرة، بل ضرب من المجازفة في العالم أجمع لا سيّما في عالمنا العربي في الوقت الراهن، لكن "المجازفة جزء من النجاة"، بحسب تعبير النِّفَّري. كلّ فعل ثقافي موضوعي في العالم اليوم هو فعل انتماء إلى الحبّ. إنّه شكل من أشكال مواجهة التخلّف والتطرّف والعنف والاستجابة للتحدّيات القائمة. ضمن هذا الأفق، نتابع النشاطات الثقافية في البحرين، في بيوتها الثقافية العامرة والمتكاثرة. وفي هذا الإطار أيضاً، يأتي الكتاب الجديد من "إشراقات" ليسجّل عاماً كاملاً من اللقاءات الثقافية التي تَزاوجَ فيها الفكر والعلم والآداب والفنون وأحيتها نخبة من المثقفين والمبدعين من داخل البحرين وخارجها. هذا الكتاب لا يوثِّق فقط لموسم ثقافي، وإنما يسهم أيضاً في طرح الأسئلة الحقيقية وتعميقها ويترك المجال مفتوحاً أمام التواصل والحوار. إنّ الإصرار على الفعل الثقافي، والانحياز إلى الفنون والعلوم، والانتصار للإبداع بوجوهه المختلفة هو انتصار للحياة والارتقاء بها، وهو أيضاً نوع من التفاوض الدائم مع الأمل. *مقدمة كتاب "إشراقات" الصادر عن "مركز الشيخ ابراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والفنون" في البحرين والذي تديره وتشرف عليه وزيرة الثقافة والإعلام الشيخة ميّ بنت محمد آل خليفة، ويتضمّن نشاطات "الموسم الثقافي الثامن" في البحرين والتي تشتمل على ندوات ومحاضرات وأمسيات شعرية شاركت فيها نخبة من الكتّاب والمثقّفين العرب والأجانب، طبع الكتاب في المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ببيروت.