1 حضر ذلك الصديق ببالي وإيقاع انقضاء العام يوشك على الاكتمال ، فقد بقي يستجمع كل انتظاراته لكي يصل اليوم الأخير، وينتهي منه . كان يريد القبض عليه بيده ، ودق رأسه في أرض الأبدية ، فلا ينطق بكلمة ، ولن يتلقى جوابا . ظل يبغض ، وصدق اللحظات الختامية من كل عام فيتوقف عن الكلام ، وأنا لا استحثه على الاسترسال فيغتم صوته ، ويبدو نفورا ، وهو غير ذلك في الأيام العادية . بشجن حقيقي يردد : إنه يرحل ، لقد رحل ، كلهم يرحلون ، الأصدقاء والأيام ، المدن والحبيبات ، الزوجات والأبناء ، يرحلون ويتركونني وحيدا . من قبل كنت أحادثك وتجيبين علي ، اليوم ، أنا أكره هذه الآلة المسجلة ، لن أرضى بها أبدا ، ولن أترك عليها أية رسالة صوتية ، فهذه الآلة ، الآلات جميعا هي أمكنة افتراضية تجعلني أتخبط واضطرب فلا تعود شهيتي للكلام رائقة . حسنا ، مررت بباريس ومن فرط عجبي وجدتك . ما هذه الورطة ، أن تكوني موجودة ورطة ، وأنا أمد يدي وأصافحك ، نشرب القهوة في المقهى المجاور لبيتك ، وكلما أراك أتصور أن الدنيا مولية ظهرها لي ، وعكسها معك . آه ، من المؤكد أنني لا أغار من هذا الأمر ، فحتى الغيرة نفضت يدها عني ، أنا فقط استغرب من أمر واحد لا غير ؛ إنك تملكين بعض المبادرات ، حتى لو لم تتحقق ، فألاحظ أن الفشل أو الاحباط لا يشغل بالك ، فتنبت لك مبادرات ثانية وثالثة . أنت التي تتواصلين ، وتتصلين بنا فردا وراء فرد ، وأنا أقف بعيدا عن هذا ، عن الصداقة والأصدقاء ، لست من هؤلاء ولا أولئك ، ولا ينتهي ضيقي وضجري إلا بإسدال الستار على آخر دقيقة من هذا العام متسللا عما حولي ، من الأسرة بالدرجة الأولى . أغلق الباب ، ولا أريد أن أقول لأي أحد ؛ كم أفيض شوقا ، كم مر من الوقت ولم نلتق ؟ كم مرة أقرر تحطيم القوقعة والحراشف لكي ولكي ... وحين ألاحظ بعض الأصحاب يقومون بالتحضير للاحتفال بآخر العام ، أشعر أن العبء يزداد علي. أرجوك يا صديقتي لا تضيّقي الخناق علي ، إلا ترين سحنتي تكفهر ، ولوني يزداد شحوبا ، شفتي مزمومة ، والكلام لا يريد الظهور لأنه خلص ، ومشاعري تقيم ما بين الكآبة وكل هذا الملل الممل ، وغير الفريد في نوعه ، أراه يقبل علي من باطن هذا الكون ، ويتخصص به بعض البشر أيضا .. اسمعي ، لا تزعلي ، لن أترك لك رسالة صوتية مهما حصل من ... ... 2 صديقتي الثانية لا ينقصها الخيال فتقول يوميا : أسعدت صباحا أيها الخيال الجامح . كل ما فيها يذكرني بالكيميائي الحاذق الذي لا يخاف من المتفجرات حتى لو انفجرت في وجهها فهي مستعدة للمواجهة أفضل من هذه العتمة والتشاؤم ، تواصل : وجه العالم صفيق جدا ، والحيوية التي تخص الأرض والعلاقات ما بين البشر تدخل في السباق ، وأنا لا أريد أن أكون في النهاية ، نهاية الصفوف . لو تدرين كم أنا شغوفة بشيء من الكسل البسيط ، العادي والتام فهذا لم أجربه منذ سنين طويلة ، فسوق العمل هنا في الغرب ، في هذه الدول التي ترانا "" كفضلات الذبائح "" هو أمر قاتل ، قاتل .. بقيت تكرر هذا النعت مرات لم أحسبها ثم توقفت ، وهي تنظر في عيني : أريد أن أكون شخصية حقيقية في حياتي العامة والخاصة ، لا صابون العائلة الأكثر بياضا . اسمعي ، قررت أن أغير حياتي فلم أعد أطيقها . اليوم أنا أقف على أعتاب المنحنى الوجودي فلا شأن لي بما تفعل النساء بحياتهن لكي يتوهمن أنهن سعيدات ، أنا لست سعيدة ، وأريد التخفيف أو التقليل من منسوب اللاسرور في وجودي . أريد التدخل في جميع شؤون حياتي لا تركها للغير . سأخذ مواعيد من المعالج النفسي ، سوف أغير ستائر الشقة كلها ، وأثاث الصالون أولا . قطعا سوف أقص شعري بموديل ناعم ورقيق يجعلني أبدو في عمري الحقيقي ، لا اصغر ولا أكبر . سوف أتوقف عن الانتظار في الطابور لأي حدث مهما كان نوعه ، أنا التي ستبادر وتقتحم ، فلا أحد يستأهل انتظاري , ... 3 الصديقة الثالثة قالت لي : انتظريني في محطة المترو المجاورة لشقتك . حضرتْ في الموعد كعادتها . كانت مدعوة إلى أحد المؤتمرات إياها في دولة افريقية . حين لمحتها ، وكما نقول بالعراقي ؛ قررت أن أبيع لؤما معها . فالحقيبة التي سحبتها وراءها كانت ثقيلة ، شروط الوجاهة هناك ، والثانية التي وضعتها على كتفها تبدو أثقل ، وهذه قد تكون محشوة بالمداخلات والنظريات والمساجلات ، وربما بالأطايب الإفريقية الشهية . وقفت أتفرج على طلتها الجميلة ، فهي ما زالت جذابة وفواحة . هذا نوع من المخلوقات أو السلالات البشرية اللاتي يمر العمر بجوارهن متأخرا ، فيثير شيئا من التحاسد . قررت أن أتأفف في وجهها ، وأنا أساعدها في حمل الحقيبة الصغيرة : حسنا ، لم تتقاعسي بعد عن مساعدة النسوان هل ما زالت النسوانية تاجك ، ورهاب الرجال شهاداتك العليا ؟ هل يعقل هذا وبعد كل هذه السنين يا عزيزتي .. ؟ اناكفها ، وهي تجر الحقيبة وتتأفف بدورها فأقول لها مازحة : تصوري لو تركت للرجل فرصة أو مهلة ما لكي يعينك في سحب أو رفع هذه الحقيبة ، على الأقل ! لم تقاطعني كعادتها . كانت تلهث فتصورت أنها اقتربت ، أو عثرت على حل لغز المرأة ، لا الرجل فهي الأكثر غموضا والتباسا ، لكنها لا توافق على ذلك . طوال الطريق إلى بيتي ، وهي مسافة قصيرة جدا بقيت صامتة ، وأنا أعاود : ماذا حدث في المؤتمر الأخير ها ؟ هل ما زال هو الغشاش الصغير ، الخائن المثالي ، الديك الهراتي الذي يفزع الدجاجة ، وهي تستجم في الهواء الطلق . ألم تكفي عن كل هذه الثأرية السأمة ؟ ألم يداخلك في أحد الأيام الشعور بالفشل من أداء هذا الدور ؟ فذاك الذي عملت منه جثة ، أعني الرجل ، ما غيره ، هو الذي يمدنا بالأسئلة عن أحوالنا نحن ، وعنه هو بالدرجة الأولى . ابتعدي عنه قليلا ، ودعيه يتنفس الصعداء إذا حالفه الحظ ، وتركت له بعض الفضاء . إلا ترينه يا عيني كم هو شديد الهشاشة ، وكثير الأمراض ؟ من قبل حددتْ له مكانا صغيرا بحجم كابينة الاستحمام ، وأخذت ، أخذتم البحر كله .. . هه ، بالمناسبة ، هل تعلمت السباحة أخيرا ؟ 4 آه ، هو ذات الملل الوفي يصاحبني من حين لآخر فكنت أراه يتأبط أذرع بعض الأصحاب ، ويحاول اقناع الكثير من الأصدقاء ، فيبعث صريره ما بين الأبواب والقلوب الموصدة . أبصره في واجهات العديد من البيوت ، وعلى جبين الكثير من الوجوه . في أدوات الكتابة ، وأمام مائدة الطعام ، وتكرار المضغ يوميا . أحسب أن الملل موجود يوم الاثنين مثلا فهذا يعقب يوم الأحد الذي لا استلطفه كثيرا .الضجر هو الكائن الذي نستطيع أن نلم شملنا معه فنبدو شخصا واحدا ، لكننا لا نشبه المرة السابقة . الضجر له طريقة لطيفة حين ينسق لنفسه طرقا متعرجة ما بين الكلام واللغة ، ما بين أجزاء الموضوعات الحقيقية كالرغبة وبعض الأنشطة الوجودية الأخرى ، فيتسلل إلى راهن بعض الصداقات ، ويعبر بخفة صاعقة إلى العلاقات الزوجية والغرامية . أحيانا يحضر ولا يتقاضى أي أجر . أنيق ، ناجز ، ولا يتلاشى بسهولة فيظهر في الحيثيات الوراثية للكائن البشري ، فهو ملازم للطبيعية الإنسانية ، وأنا أتصوره أحد عناصر الكون غير المرئية ، فنقول عن فلانة : ياه كم هي / هو يثيران الملل . نقرر بغتة ، نحن بعض الصديقات المغادرة للريف فلعل ساعات زحام الضجر يعقبها انفراج ما . فجميع ما يخص قمم الأرض والسماء تسأل : من القادم الجديد ؟ فالفزع حقيقي وتراجيدي لكن ما من مجيب . وماذا يعني إذا اختفت بعض دول المعمورة ، فالدول كثيرة ، فائضة وهي أيضا تسبب سأما لا نظير له ، وهو يتضاعف عاما بعد عام . الاختفاء أمر نافع ، وانقراض الأنواع يحمل بذرة خير للبشرية فهو يتم على أكمل وجه ، وبدقة مرسومة ، ما يمنحنا نحن المشكوك في أمرنا ، وأمر وجودنا كنوع بأننا سنستقل المركبة وتحت سماء رمادية ، وإحدانا تنظر للباقيات وتقول : ترى هل ستحضر منيتنا في الريف أفضل من المدينة ، فهذا الأمر سوف يقتل الملل أليس كذلك ؟ كان الموقد يتوهج بالحطب ، والنيران تأخذ حدودها القصوى ، وتبدأ تدريجيا بالخفوت الهادي الرتيب والممل . فتجيب الثانية : الا تبدو هذه الدنيا والحياة متخيلة حقا ؟ الا نبدو مجرد ضمائر غير مستترة ، ومضحكة جدا . ولماذا لا يدخل ما ندونه من هذيانات واسترحامات إلى شخصيات أعمالنا الروائية ، فربما وحدهم يشكلون الحقيقة المؤكدة أكثر منّا ، ففي الكتب تبدو جوانب الصراع مكشوفة أفضل منها في الوجود . كنا نمزح ونسجل بعض الملاحظات ، ونحن نحاول قياس الملل بفرجار ، ترى كما بقي منه فينا ، وكم تسلل إلى الخارج ، خارجنا .. ؟