-1- استعرضنا ثلاثة كتب بوصفها أمثلة على ما صار يسمى بالأكثر مبيعاً، وثقافة الأكثر مبيعاً تعني الأكثر استجابة للرغبات العمومية لدى الناس، ولن نتعرف على حقيقة هذه الكتب إلا عبر التعرف على ظروف الاستجابة، فالذي يجعلها أكثر مبيعاً هو في ملامستها لدافع ذاتي عند مستقبليها، وسنجد أدلة على هذه الدوافع إما عبر الاستطلاع وقد فعلنا هذا في مقالنا عن كتاب (لا تحزن) أو عبر خصائص أخرى كنا أشرنا إلى عدد من ملامحها الأساسية المؤثرة في صناعة هذا النوع من الكتب، وبقي أن أشير هنا إلى الدور الذي تلعبه العناوين (وبعضهم يفضل أن نقول عنوانات)، وهو دور مهم نراه في تمعننا لها. ونبدأ بكتاب (لا تحزن) للشيخ عايض القرني، وهو كتاب اعتمد على هذه الجملة: لا تحزن، بما لها من شحنة نفسية ثقافية في الثقافة العربية، والإحالة هنا إلى حادثة الهجرة الكبرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع صاحبه أبي بكر حيث فرا من مكة ولاحقتهما جحافل قريش بخيلها وقضيضها، مع مكافأة كبيرة لمن يمسك بهما، وكانا يختبئان في الغار اتقاء المطاردين، ولم يكن بينهما وبين العدو المطارد سوى نظرة عين، ولو نظر أحد الفرسان إلى حوافر قدمي فرسه لرأى المختبئين في الغار، وهذا ما همس به أبوبكر لصاحبه، حيث جاءه الرد: لا تحزن إن الله معنا، وهذه جملة تاريخية محفورة في ذاكرة الثقافة العربية، وترتبط ارتباطاً دلالياً وثيقاً وملازماً بجملة رديفة صاحبت هذه الجملة بتلاحم نفسي عميق، وهو جملة: فأنزل سكينته عليه، وهنا جرى توثيق الصلة المعنوية بين: لا تحزن، ونزول السكينة. وفيما بين الجملتين ترقد ذاكرة لها عمق تاريخي ونفسي متأصل. لقد جاء كتاب القرني ليجر الذاكرة القرائية باتجاه هذا المعنى العميق، وكل امرئ حزين سوف يتبادر إلى ذهنه هذا الترابط التاريخي بين مواجهة الحزن واصطياد السكينة التي هي مطلب أي مكلوم، وهي لحظة المواجهة الواعدة، ولا شك أن العنوان المختار هنا قد فعل مفعوله النفسي في تحريك الأمل بعين الناظر للكتاب ومعه تتحفز الذاكرة باحثة عن سكينتها المفقودة، مع تمثل تام لحال القصة الأولى وحال الخوف الأول وحال الحزن التأسيسي الذي كان يهدد مصير الدعوة كلها، ولكن الله أنقذ الرسالة بنزول السكينة ومن ثم تمت صناعة التاريخ. -2- وإن كنا ضربنا مثلاً على الدور الإيجابي لوظيفة العنوان في مثال (لا تحزن) فإننا نعطي مثلاً آخر سلبياً هذه المرة، وهو عنوان كتاب هارفي: (تصرفي كامرأة وفكري كرجل)، وهو عنوان لعب على الخدعة الثقافية النسقية التي تنسب العقل للرجل وتخصه بصفة الفكر، وتفرد العاطفة للنساء، وهي خدعة ثقافية تعتمد على ما نسميه بالعمى الثقافي، حيث ينساق البشر نحو معان يكونون قد صنعوها في القدم حتى تمكنت من الاستقرار الزماني والتواتر الروائي، وكل وهم في الثقافة إنما يتركز ويصير بمثابة الحقيقة إذا توفر له شرطان، هما طول التعاقب الزمني، ثم تواتر القول فيه، ولقد مر على البشرية أزمنة سحيقة وممتدة ثقافياً وتاريخياً تقول إن العقل رجل، وهو قول ممتد في الزمن ومتواتر على الألسنة، وبسببه اتخذ هارفي عنوان كتابه، وكأنه يقدم هدية سحرية للنساء بأن يحصلن على الكنز العظيم الذي ظل بعيداً عنهن، وهو هنا يعدهن بحيلة شيطانية ماكرة لكي يحصلن على الهدية العظمى فيفكرن كالرجال، ولا شك أن هذا العنوان قد خدع الكثيرات لأنهن ضحايا التنويم الثقافي والعمى الفكري، وهو في الوقت ذاته يعزز غرور الرجال بأنهم أهل العقل والفكر. لم يخطر ببال المؤلف أن يراجع مقولته لأنه ليس من أهل الثقافة المتخصصة وهو رجل من أهل الكوميديا ورجل علاقات عامة لا أكثر، كما لم يخطر ببال قارئاته أن يناقشن عنوانه هذا لأن اللواتي يقرأن الكتاب هن عادة من ضحايا المجتمع الذكوري ويجذبهن الوعد بمعرفة الطغاة والتعرف على أسلحتهم وسر قوتهم، والكتاب يوهمهن بذلك. ولا شك أن الكتاب يقوم على عنصرية ثقافية ضد النساء، كما أنه يقوم على وصاية ذكورية واضحة، بمثل ما يستغل ظروف المكلومات والمكلومين أيضاً ويقدم لهن قشة للنجاة مثله مثل ما يسمى بالطب البديل وطب الأعشاب والطب الصيني والشعوذة والتنجيم وغيرها من الفنون التي تروج بين المحتاجين المكلومين ولا لوم عليهم، ومن ذا يعاتب مخنوقاً إذا انتحبا - كما هي كلمة نزار قباني -. وأخطر ما في هذا النوع من الكتب هو أنه يمر دون نقد، والنقاد عادة لا يقفون عند هذه الكتب استهتاراً بها من جهة، وبسبب كثرتها المفرطة من جهة ثانية، وهي كتب عادة لا تعيش طويلاً ويحل غيرها محلها في دوامة تجارية لا نهائية، وهي مظهر ثقافي عصري، كأحد مظاهر الثقافة الجماهيرية، وهي نوع يقوم على توظيف البعد النسقي للثقافة، ويتخذ من رغبات النفس المقموعة وسيلة للنفاد، وكم تعجبت فعلاً حينما رأيت في بعض مناسبات بعض نساء كنت أعدهن من المثقفات الواعيات ووجدتهن يمتدحن كتاب هارفي ولا ضير من ذلك إذا كنا نريد منه المتعة أو التعرف على واقع الحياة البشرية أو تعلم بعض ما فيه، ولكن يجب ألا يفوت علينا إدراك ما فيه من ضرر ثقافي ومن تعزيز للنسق وتأكيد على الوصاية من جهة وعلى إشاعة حال العمى المعرفي من جهة ثانية. ويكفي أن نتذكر أن كتاب هارفي يضع ثنائية ثقافية جاهلية ونسقية تقول إن الشعور امرأة وإن الرأي رجل، ويحاول في الكتاب أن يدرس المرأة كيف يكون لها رأي وكيف تصنع الرأي عبر خمسة أسئلة بسيطة وبدائية، ولقد استعرضتها في المقال الرابع من هذه السلسلة، ولا شك أن الدفع بالمرأة لكي تصدق كلام هارفي وتبسيطاته سيجر معه حزمة من الأخطاء النفسية والاجتماعية لا يمكن تصورها إلا بعد حدوثها، وهو كلام يشبه الإعلانات وإغراءاتها، والثقافتان متماثلتان بكل تأكيد. وكما نتساهل مع أنفسنا فنسمح لها بأن تنخدع بالإعلانات مثلاً أو تستجيب لإغراءات الموضة فإننا أيضاً ننساق وراء الكتب المسماة بالأكثر مبيعاً ونسمح لأنفسنا بأن نصرف مالنا وبعض وقتنا للتمتع بالحش والوشاية والإشاعة والتزجية السريعة والكتب السهلة والروايات الفضائحية، وهكذا مما هو تافه في رأي الفكر الجاد ولكنه - مع ذلك - يظل ضرورة بشرية بما أنه مصدر للمتعة، ولنتذكر كتاب الأغاني مثلاً، وهو كتاب يمكن أن نقول عنه إنه من نوع الأفضل مبيعاً، حيث شاع في ثقافتنا من يوم صدوره حتى اليوم، وهو كتاب في المتعة والحش والسواليف والحكي، أي في الثقافة الجماهيرية وثقافة التسلية، وأينه من كتب الخليل وابن جني والغزالي مثلاً، ولكن لكل من هذه وقت ولكل من هذا حالة، والمرء يقف عند هذا وعند ذاك، والثقافة - أي ثقافة - لن تخلو من هذا جميعه، وكما نجد أفلاطون وأرسطو عند اليونانيين فإننا نجد الإلياذة أيضاً، وقد قال سوفوكليس عن ثقافة الاستحمام وثقافة المصارعة، حيث في الأولى استرخاء ومتعة وفي الثانية جد وتدريب حربي، وكان يستنكر على شباب أثينا تفضيلهم الاستحمام على المصارعة، وهو استنكار فيه مبالغة في الطهورية المفترضة، بينما البشر محتاجون لهذا وذاك ولا تقوم الحياة والثقافة إلا بتبادل الوظيفتين معاً، وظيفة الجد ووظيفة المتعة. لقد أتى هارفي عبر كتابه متقلداً بقلادة النسق الثقافي حتى بدا وكأنه يعرف عن المرأة أكثر مما تعرف عن نفسها، مثله في ذلك مثل ما يشيع بأن نزار قباني عبَّر عن النساء بأبلغ مما يعرفن عن أنفسهن، وهذا وهم ثقافي خطير سميته من قبل بالعمى الثقافي (كتاب: النقد الثقافي، الفصل السابع). ولو افترضنا أن كتاب هارفي من تأليف امرأة فإننا لن نرى عنواناً كعنوانه بأي حال من الأحوال، وهذا ما يدفع العجب من شيوع الكتاب بين النساء ومن إعجاب بعضهن به، وهو ما يفسر لنا مدى خطورة النسق وتغلغله في الذهن الثقافي وتمكنه منه حتى ليحمل المرء والمرأة تصورات تتناقض وينسخ بعضها بعضاً. ولقد لعب هارفي على هذه الحيلة وصارت فعلاً أحد أسباب تسويق الكتاب وشيوعه.