كأن على رؤوسهم الطير .. غفلت أعين المدنيين في قطاع غزة في هذه الليلة، فمنهم من نام في منزله مجازفاً بحياته وحياة أبنائه خوفاً من الشتات في ردهات مدارس "الأونروا" التي كانت هي الأخرى غير آمنة، ومنهم من أراد أن ينام مع جمع من الناس من الأهل والأقارب والجيران سعيا في أن تسكن الطمأنينة القلوب ولو للحظات. عائلة العبسي التي كانت ضمن سجلات الليلة الثالثة في سجل جرائم حرب "الرصاص المصبوب"، اغتالتهم طائرات الاحتلال في منزلهم وهم نيام في فراشهم يحلمون بأن يفيقوا على شمس دافئة تمحو من ذاكرتهم ما سمعوه عن روايات الحرب المؤلمة وأن يفاجأوا بأن ما حدث في الأيام الثلاثة الماضية ما هو الا كابوس مرعب سيفيق منه جميع من نام في تلك الليلة. كان الصمت القاتل يخيم على المكان؛ خلت السماء في كافة أنحاء القطاع من كل شيء يدل على الحياة إلا من غربان اسرائيلية تزمجر فوق رؤوس السكان منذرة بأن هناك موتا يتربص بهم، مارسوا حياتهم بشكل طبيعي وغير طبيعي لأنه كان عليهم فعل ذلك، نام أبناء عائلة العبسي في هذه الليلة تلفهم جدران منزلهم الصغير؛ الكائن في أحد أركان مخيم "يبنا" للاجئين جنوب مدينة رفح والذي بات شاهداً حياً على جرائم الاحتلال الإسرائيلي التي لاحقت السكان المدنيين خلال سنوات الشتات. في حوالي الساعة الواحدة من صبيحة يوم 29 ديسمبر (كانون الأول) 2008 دمرت الطائرات الاسرائيلية منزل عائلة العبسي، كانت العائلة المكونة من عشرة أفراد نائمة في تلك اللحظة، ما أسفر عن مقتل ثلاثة من أطفال العائلة وهم صدقي، (4 سنوات)، وأحمد، (10 سنوات) ومحمد، (12 عاماً). وجرح والديهم وأخواتهم الأربعة، جراح بعضهم كانت خطرة. وكأن الله أراد لها أن تغيب عن الواقع المؤلم ولو لبرهة من الزمان كي لا تفيق على فجيعة فقدان الأبناء، الأم عفاف، البالغة من العمر، (41 عاماً)، ذهبت في غيبوبة واستمرت معها لمدة شهرين. ولا تزال ابنتها زكية، ذات الستة عشر ربيعاً، بحاجة إلى عملية أخرى في يدها اليسرى. وقذفت قوة الانفجار بالطفلة نعمة، التي بلغت عامها الثالث بعد عام من ذلك اليوم، إلى سطح منزل مجاور. فقط الفتى محمد، الذي بلغ الثامنة عشرة بعد عام من الحادث المأساوي؛ أفلت من الجريمة دون أن يتعرض لإصابات. طفلة جريحة أصيبت بشظايا صاروخ إسرائيلي أعمى تقول سميرة أخت الأم عفاف، والبالغة من العمر (45 عاماً): 'اعتقدنا أن عفاف قتلت هي وجميع أفراد عائلتها'؛ مكثت في العناية المركزة في المستشفى بغزة لمدة عشرة أيام كانت حالتها خطرة وجسدها ضعيفاً، وكان الأطباء يتخوفون من عدم تحملها مشقة السفر ولكنهم بعد عشرة أيام أحالوها للعلاج في المستشفيات المصرية. وتتابع "ذهبت معها إلى هناك وكنت أنام في غرفة مجاورة لغرفتها. كانت في حالة غيبوبة استمرت لمدة شهرين تقريبا. وعندما استيقظت سألت عن نعمة ثم سألت عن أبنائها الآخرين. أخبرتها أنهم في غزة وهم بخير"، فقالت "لا أريد أن أبقى هنا. أريد أن أذهب إلى بيتي وأولادي". في تلك الفترة كان يتصل بها أبناؤها الناجون من الهجوم. وبدأت تسألني 'لماذا لم يكلمني أحمد؟ لماذا لم يكلمني محمد؟' عندما كانت تتحدث مع الباقين كانوا يختلقون الأعذار. فكانوا يخبرونها بأن أولادها الثلاثة الذين قتلوا 'بأنهم في الخارج في السوق أو عند أقاربهم'. وتقول سميرة التي لم تستطع إخفاء الحقيقة عن أختها. 'أخبرتني عفاف بأنها تشعر بأني أخفي عنها شيئا ما'. قالت لي:' أشعر بأن أبنائي قد قتلوا ' وتوسلت إلي بأن أخبرها الحقيقة. وبقيت أنكر ذلك كما أن زوجها زياد ألح عليّ ألا أخبرها الحقيقة. ولكن في النهاية اعتقدت أنه من الأفضل أن أخبرها وأنا في مصر بوجود الأطباء حولها. أخبرت الطبيب النفسي ليتم إخبارها بالحقيقة وانتظرته حتى جاء لزيارتها في الغرفة. ما أصعبها من لحظات . لم أكن أعرف كيف سأفعل ذلك. قلت لها "اذا أخبرتك بأن صاروخا سقط على منزلك فماذا تفضلين أن يقتل كل أولادك أو ثلاثة منهم؟، فقالت لي "إذاً قتل ثلاثة منهم" هذا ما حدث عندما أخبرتها بذلك. وحضنتها وحاولت أن أُهدّئها . بعد عام على الحرب؛ تعيش عفاف الآن وأسرتها في أوضاع معيشية صعبة حيث تقيم مع أقاربها ليس بعيدا عن حيّهم القديم. فالأسرة لا تستطيع أن ترمم وتعيد بناء منزلها بسبب مواصلة السلطات الإسرائيلية منع إدخال مواد البناء إلى قطاع غزة، وللسبب نفسه فإن آلاف العائلات ممن دمرت قوات الجيش الإسرائيلي منازلهم لم تتمكن من إعادة بناء مساكنها التي دمرتها قوات الاحتلال. وتعتقد سميرة بان التنقل المستمر لعفاف يعيق فرص نجاح معالجتها نفسياً. "عفاف لا تعمل أي شيء الآن" حيث تأذى جهازها العصبي بشكل كبير. فلا تستطيع أن تمسك أو تتحكم في أي شيء. لا تستطيع الطبخ، وبالكاد تستطيع أن تتناول الطعام وحدها. وتتساءل دائماً 'ما الفائدة من أكلي؟ إنه إهدار للطعام. فانا لا استطيع حتى الاهتمام بأبنائي.' فهي لا تزال ضعيفة. حتى انك لو لمستها فإنها قد تقع على الأرض. حرب الإبادة تشمل عدا الإنسان .. الحجر .. وحتى الأنعام وتواصل سميرة، كانت تعد الطعام لأبنائها عند عودتهم من المدرسة. أما الآن فهي تقضي معظم الوقت نائمة. أعتقد أنه لو كان لديها منزلها الخاص بها .. منزلا تعتني به، ربما لتحسنت حالتها. لقد تأثرت حياة أسرة عفاف وأطفالها ممن بقوا على قيد الحياة بشكل دائم. فابنتها نداء، التي تبلغ (19 عاماً) من عمرها الآن، كانت تأمل بأن تلتحق بالجامعة لتواصل دراستها. ولكن عليها الآن أن تبقى في المنزل لتعتني بوالدتها. وكذلك ابنتها زكية التي تبلغ من العمر (16 عاماً) وهي تستخدم يدها اليسرى بشكل جزئي بعد إجراء ثلاث عمليات جراحية لها وقد أخبرها الأطباء بأنها بحاجة للمزيد من الرعاية الصحية وهي غير متوفرة في مستشفيات غزة، تأمل عائلتها في إيجاد نقود لإرسالها إلى الخارج للعلاج. أما فداء، التي تبلغ، (20 عاماً) تقضي معظم وقتها قلقة على أمها. ' فقدنا ثلاثة من أبنائنا هذا العام. وأمي شبه ميتة. أنا لازلت خائفة عليها. اذا لم يكن لديك أم فماذا لديك إذاً ؟؟' سألت فداء. وكانت الليلة الثالثة من العدوان قد شهدت فصولا متزامنة مع حكاية عائلة العبسي، حيث واصلت قوات الاحتلال الحربي الإسرائيلي هجماتها الجوية في هذه الليلة مستخدمة طائراتها الحربية النفاثة وأنواعا متنوعة من الطائرات التي لم تغادر سماء قطاع غزة لليوم الثالث على التوالي وهي تنشر الموت على مدار الساعة باستهداف منازل سكنية ومنشآت مدنية وسط تجمعات سكانية مكتظة، ما تسبب في مقتل عدد كبير من الأطفال الذين دفنوا تحت أنقاض منازلهم. وكانت المأساة الأبرز هي مجزرتي جباليا ورفح وتهجير عشرات آلاف السكان في رفح من منازلهم التي تقع بالقرب من المناطق الحدودية ممن لجأوا إلى مدارس وكالة الغوث الدولية هرباً من القصف. ففي جباليا دمرت الطائرات الإسرائيلية مسجد عماد عقل الواقع في بلوك (4) من مخيم جباليا للاجئين ما أدى إلى تدمير المسجد وعشرات المنازل السكنية المجاورة، وهي منازل متواضعة مسقوفة بالإسبستوس، تطايرت أسطحها وانهارت جدرانها بسبب شدة القصف. وفي هذا السياق دمر منزلان مجاوران للمسجد تدميراً كلياً، ودفنت أسرة تحت أنقاض منزلها ما تسبب في مقتل الطفلات جواهر أنور خليل عبد الله بعلوشة (4 أعوام)، وشقيقتها دينا (8 أعوام) وشقيقتها سحر، (12 عاماً) وشقيقتها إكرام (14 عاماً) وشقيقتها تحرير (17 عاماً) فيما أصيبت شقيقتها براء التي لم يتجاوز عمرها الأسبوعين وشقيقهن محمد الذي لم يتجاوز العام الثاني من عمره وشقيقتيه سماح (11 عاماً) وإيمان (16 عاماً) كما أصيب الأب والأم بجروح متفرقة من أجسادهما. وألحق القصف أضراراً جسيمة بعشرات المنازل المجاورة للمسجد المستهدف كما أوقع (24) جريحاً جميعهم مدنيون أصيبوا وهم داخل منازلهم. عام مر على استهداف السكان ودفن الأطفال تحت أنقاض منازلهم ولا يزال السؤال الذي يطرح نفسه، يطفو فوق سطح الصمت الدولي على جرائم الاحتلال البشعة ضد المدنيين العزل في قطاع غزة، ولا زال السكان هنا بحاجة لمن يجيبهم ويعيد السكينة الى قلوبهم، لماذا قتل من قتلوا دون أي ذنب يقترفوه وهل هناك ضمان في أن نبقى أحياء بمأمن من يد الغدر الصهيونية.!؟