نتقابل في الشارع... وكنت قد عدت أدراجي من وسط السوق بعد أن حصلت على نسخة جديدة من ديوان المتنبي جلبها لي أحد معارفنا الآتين من الرياض، وإذ كنت أسير متأبطاً كتابي إذا بمحمد السليم يخرج من الزقاق الفرعي، ومن عادتي أن أراه ويراني في الحارة وفي المعهد وفي الأسواق ونكتفي بنظرة أو سلام عابر وينتهي الأمر عند ذاك، ولكنه هذه المرة يديم النظر إلي ويركز على الكتاب المتطوية عليه يدي وكأنه ملتحم بي، ينظر محمد ويعيد النظر ثم يتوقف، ويسألني قبل السلام والكلام: (هل تقرأ كتب...!!)، قالها باللهجة العامية السريعة، فقلت له: نعم. عندها غير محمد وجهته وأخذ يسير معي، كان ذلك في منتصف عام 1381ه (1961م) ومن يومها صارت الصحبة وصارت المحبة وصار محمد الصديق الذي ما اهتزت صداقته معي قط. كان محمد من قُراء الكتب المدمنين وكان يعيش هوايته هذه لوحده ولم يكن أحد من زملائه يشاركه الهواية ذاتها، وحينما رأى الكتاب معي أدرك أنه قد اكتشف صديقه الذي يحلم به، ولقد كنا حينها نعيش معاً في حارة المسهرية بعنيزة، تلك الحارة التي تضم بيت أستاذنا وشيخنا عبدالرحمن البطحي، وكان بيتنا يقع في الوسط بين بيت البطحي وبيت السليم، وفي هذه الحارة كانت الذكريات التي تجمع مجالس الثقافة في منزل شيخنا وتجمع حركة مرور من نوع خاص جداً، وهي مرور الكتب فيما بين بيتنا وبيت السليم حيث صارت الكتب تدور في حركة متصلة أصبحت معها مكتبتي المنزلية ومكتبة محمد خزينة واحدة ولم تعد كتب أحد منا محصورة لصاحبها، يأخذ ما ينقصه مني وآخذ ما ينقصني من مكتبته، وإذا فرغ من كتاب أعاده لي ليأخذ غيره مثلما أفعل تماماً، ثم كانت وجهتنا فيما ليس عندنا من الكتب إلى المكتبة السعودية، وهي مكتبة أنشأها الوزير عبدالله السليمان وفتحها للعموم، وكنا أنا ومحمد من روادها الدائمين، حيث نشأت بيننا منافسة محتدمة في القراءة، وكنت أنظر في دفتر الإعارات في المكتبة وأتابع اسم محمد السليم لأرى متى استعار الكتاب ومتى أعاده، لكي أقارن بين سرعته في القراءة وسرعتي، وهذا ما شكل حافزاً عندي وعنده لكي نطوي ورقات الكتب طياً، حتى قرأنا كتاب الأغاني ونفح الطيب والنقائض والعقد الفريد والحيوان وكتب التاريخ كالكامل والبداية والنهاية في أيام معدودات لكل واحد منها، وكانت لقاءاتنا مناقشات في الكتب وإذا احتاج أحد منا للتغيير إلى السواليف أو إلى الترويح بحث له عن شخص آخر، إذ ما بيني وبين محمد هو الكتب وما في بطونها، ولا نعرف لغير الجد إذا اجتمعنا. كنت مرة في رحلة إلى الطائف في زيارة لأعمامي صيف 1962 حيث صرفت هناك كل ما معي من ريالات معدودة على شراء الكتب ومن بينها دواوين الشاعر العربي سليمان العيسى ونزار قباني، ولقد أخذت نسختين من كل ديوان للعيسى لي ولمحمد، ثم حينما عدت لعنيزة وجدت محمداً قد سافر من بعدي إلى البحرين مع أحد أقاربه وإذا به قد اشترى أيضاً دواوين سليمان العيسى مكررة له ولي، ولم تك هذه مفاجأة لي ولا له فكل منا يعرف أن هذا ما سيفعله صاحبه ولا غرابة، وربما تكون الغرابة بل الفاجعة في كل معاني الصداقة لو أن أحدنا لم يفعل هذا. ظلت الكتب بيني وبينه ومازالت مكتبتي تختزن نسخاً من كتب كانت في الأصل في مكتبة محمد. تعودت علينا حارة المسهرية تلك الحارة التي لم يبق منها في نفوسنا غير صورتها الخيالية، لقد هدموا الحارة وساووها بالأرض، وتركوها برحة مفتوحة لا معالم عليها ولكن صورتها ما زالت حية في نفوسنا إنها حارة محمد وحارة عبدالرحمن البطحي وحارة الذكريات، ومنها كنا نتحرك معاً كل صباح متجهين نحو المعهد العلمي مشياً على الأقدام، ومرة قررنا السير نحو الوادي (وادي الرمة) ويبعد عن عنيزة عشر كيلومترات، نسيرها على الأقدام، ونمضي في الوادي يوماً كاملاً نتحرك فيه ما بين نخيل خال محمد ونخيل خالي إبراهيم، ثم نعود في المساء على أقدامنا أيضاً، ولا بد أن حساب ما نمشيه في يوم كذاك سيتجاوز الثلاثين كيلومتراً في مجمله، ولم نك نشعر بالتعب، لقد كانت الكتب هي حاملتنا وهي مسافتنا وهي لغتنا. كان محمد شاعراً، ويأتيه إلهامه في أوقات مباغتة. ومرة كنا نسير متجهين إلى الوادي، وإذا به يتنحى إلى طرف الطريق ويأخذه الهاجس الشعري وفي خلال ساعة واحدة خرج بقصيدة تجاوزت الثمانين بيتاً، كانت قصيدة قومية تلتهب عروبة وحساً ووطنية، وبعد أن تحرك مسار أقدامنا أخذ يرددها بصوت تشهد عليه شعاب الوادي وسحنات الأرض وكنت أقول له ارفع صوتك فلربما سرى الصوت حتى ليصل إلى سليمان العيسى في دمشق ليعرف أن في بطن وادي الرمة شباباً يقرؤون دواوينه ويقولون شعراً مثل شعره وينتفضون عروبة ووطنية مثل وطنيته. كانت القصائد تأتي على لسان محمد وكأنها مطر يتدفق لا يرده حاجز ولا تقف في وجهه معوقات، ولكن محمداً ترك الشعر بعد ذلك واتجه لدراسة الحقوق والقانون، وسافر إلى دمشق في منتصف الستينات للدراسة في كلية الحقوق هناك، وكان يأمل أن يرى حبيبنا كلنا سليمان العيسى هناك، وكم كانت صدمته عنيفة حينما اكتشف أن شاعرنا لم يعد هناك، وهذه هي أول كلمة قالها لي في أول رسالة يرسلها إلي: (صديقنا ليس هنا)، وقد كان يعرف أنني كنت أغبطه على تلك الفرصة غير أنها فرصة لم تتحقق. ظل محمد محباً للشعر ومخلصاً للعروبة والوطنية حتى وقد ترك كتابة الشعر وقوله، وظلت صداقتنا عامرة مثلما ظلت مكتبة كل واحد منا تحت تصرف الآخر. ظل كل شيء جميلاً وسعيداً.. حتى جاءتني مكالمة من أخي علي، وكنت في بيتي مرتاحاً وعلى وشك أن أنام عند التاسعة مساء، وإذا بالهاتف يأتي ليقول لي: هل تعلم عن محمد السليم...؟ خفت من السؤال وأحسست بجفاف في ريقي حتى تعثرت كلماتي، وهنا سمعت صوت أخي يقول: رحمه الله...! راح محمد... انتقل إلى ربه وتعود تلك النفس الطاهرة إلى بارئها راضية مرضية. ضاعت الكلمات، وأكملها أخي علي قائلاً سأمر عليك غداً عند التاسعة ونذهب إلى عنيزة للصلاة عليه. سمعت كلمات أخي بصعوبة حتى لم أستطع أن أرد عليه بنعم، ولم أرد عليه وهو يسألني إن كان هذا التوقيت مناسباً لي أم لا. ذهبت إلى هناك حيث كانت الصلاة في جامع الشيخ العثيمين، كنت أصلي على جنازة محمد وكنت أحس بوالدي وبوالدتي وبالشيخ السعدي والشيخ العثيمين، تلك وجوه جمعها هذا الجامع، تذكرت نفسي وأنا صغير بجانب والدي في صلاة الجمعة وتذكرت آخر صلاة لي في هذا الجامع وقد كانت صلاتي على والدتي وها هو محمد معهم في رحلة الخلد والنقاء. رحمة الله على الجميع. في هذا الجامع الذي تفتقت أذهاننا فيه على صوت الشيخ السعدي، وكم كان محمد يحب ذلك الشيخ وحينما كان محمد طفلاً كان وجه الشيخ أكثر الوجوه تقلباً في ضميره، وكان يقول لي بعد أن كبرنا معاً كيف كان للشيخ معنى خاص عنده، معنى من صنع الطفولة وتهيآتها العميقة، وها هو محمد يودعنا في محراب الشيخ وفي مسجده وها هو يدفن في عنيزة مختلطاً بطينها ومائها وعروق نخيلها. رحمك الله أيها الحبيب، وأنت الباقي في القلب لا تزول.