في أكتوبر 1962 أصدرت محكمة لياج البلجيكية قرارا استثنائيا بالإفراج عن خمسة أشخاص اتهموا بقتل طفلة لم يتجاوز عمرها الستة أيام فقط .. ولم يكن قرار المحكمة عاديا على الإطلاق حيث صدر تحت ضغط الرأي العام ليس في بلجيكا فقط بل وفي كافة الدول الأوربية ..أما المتهمون بقتل الرضيعة (كورين فاندبوت) فلم يكونوا سوى والديها وخالتها وجدتها لأمها بالإضافة إلى الدكتور كاستير الذي اقترح قتل الطفلة بواسطة جرعات زائدة من المهدئات وضعت في رضاعتها .. أما لماذا برأت المحكمة ساحة متهمين بجريمة فظيعة كهذه ؛ فلأن الطفلة كورين كانت احد ضحايا عقار التاليدوميد ! ... والتاليدوميد أيها السادة دواء مهدئ سوقته شركة ألمانية لمعالجة التوتر العصبي وحالات الغثيان التي تصيب الحوامل في الأشهر الأولى من الحمل. ورافق تسويق الدواء حملة إعلامية واسعة ولقي رواجا كبيرا في أكثر من أربعين دولة سوّق فيها تحت أسماء تجارية مختلفة. واقتضى الأمر خمس سنوات حتى اكتشف الأطباء في جامعة هامبورج الألمانية ازدياد حالات التشوه الخلقي لدى الأطفال الذين ولدوا لأمهات تناولنه أثناء الحمل. وكانت معظم تلك التشوهات عبارة عن اختفاء كامل أو جزئي للأطراف واختفاء بعض الأعضاء الداخلية وانسداد تام لفتحتي الفم والشرج .. وما يزيد من مآسي التاليدوميد أن ضحاياه (ممن ظلوا على قيد الحياة) كانوا وما يزالوا يتمتعون بقدرات عقلية راقية وواعية لظروفهم الصحية !! وبعد التأكد من صلة التاليدوميد بحالات التشوه الخلقي سحب من الأسواق عام 1962 .. ولكن هذا القرار أتى متأخرا كون آلاف الأمهات تناولنه وهن على وشك الوضع أصلا (ولك أن تتصور حالتهن النفسية حين يسمعن الأطباء يؤكدون حتمية تشوه الجنين حتى لو تناولته الحامل مرة واحدة فقط) !! وفي أوربا وحدها بلغ عدد ضحايا التاليدوميد أكثر من 8000 حالة أما خارج أوربا (حيث سوّق أيضا في اليابان وكوريا وكندا) فلم يعرف عدد ضحاياه بالضبط .. وكانت أمريكا من الدول القليلة التي نجت من تأثير التاليدوميد بفضل اصرار هيئة الدواء والغذاء ( F.D.A) على مرور كل عقار بفترة تجريبية داخل البلاد نفسها ! ورغم أن ضحايا التاليدوميد يشاهدون حتى اليوم في شوارع أوربا وتجاوزت أعمار من بقي منهم سن الأربعين إلا أن العقار عاد للظهور مجددا بعد اكتشاف دوره الحميد والايجابي مع الأمراض الأخرى (مع التأكيد على عدم وصفه للحوامل) .. فقد أثبتت الدراسات أن التاليدوميد يمنع نمو الأوعية الدموية الجديدة مما يفسر ضمور الأطراف لدى الأجنة (كون نموها أساسيا لنمو وتمدد الأطراف أثناء الحمل) .. غير أن هذه الميزة بالذات تجعله مناسباً لعلاج الأورام السرطانية كونه يحد من نمو الأوعية الدموية الجديدة داخلها .. أيضا ثبت قدرة التاليدوميد على الحد من نمو الأورام النخرية وبالتالي امكانية استعماله لمساعدة مرضى الإيدز والدرن والذئبية (بل ان إدارة الغذاء والدواء بالولايات المتحدة وافقت عام 1998 على استخدامه لعلاج الجذام) !! ... على أي حال ؛ كارثة التاليدوميد تخبرنا بحقيقتين أساسيتين يجب مراعاتهما والسؤال عنهما مع كافة الأدوية الكيميائية : * الأول : أن لمعظم الأدوية استعمالات متعددة وأوجها متفاوتة وبالتالي لابد من مراعاة الدقة والتخصص في وصفها وفهم تأثيراتها المحتملة لكل مريض على حدة (فالتاليدوميد مثلا خطير على الحوامل ولكنه مفيد لمرضى الجذام والسرطان) !! * والثاني : أن تأثير الدواء يتجاوز غالبا جسم الحامل إلى الجنين عبر حبل السرة وبالتالي يجب إخبار الطبيب بحالة "الحمل" حتى لو فاته السؤال عنها (فالتاليدوميد مثلا لم يصب أي حامل بأذى ولكنه انتهى بتشويه الأجنة في بطونهن) !!