نوكيا أيها السادة ليست مجرد هواتف نقالة بل مدينة فنلندية باردة لا يتجاوز عدد سكانها 32 ألف نسمة .. وقد اعتمدت خلال عمرها الطويل على تجارة الأخشاب (التي يتوفر منها الكثير في غابات فنلندا الشمالية) قبل ارتباطها بثورة الهواتف النقالة ويصبح اسمها على كل لسان .. أما الجزء التقني من من القصة فبدأ عام 1867 حين أسس فريدرك أيدستم شركة صغيرة لقطع الأخشاب دعاها نوكيا . وسرعان ما تنوعت أعمال الشركة وظهر لها فرع خاص بالصناعات الإلكترونية يدعى نوكيا للاتصالات . وحين انفجرت صناعة الهواتف الجوالة في أواخر الثمانينيات كانت الشركة مؤهلة لمفاجأة العالم بموديلات مدمجة وجريئة يصعب منافستها !! والمفارقة هنا أن "نوكيا" مازالت شركة متخصصة في قطع الأخشاب، وأن صناعة الهواتف هجرت المدينة بالكامل عام 1990 (حيث نقلت الشركة مصانعها الى الصين وكوريا وشرق أوروبا) ولم يعد يربطها بالمدينة الصغيرة سوى الاسم والتاريخ! ... غير أن أعمال الشركة لم تنتقل من نوكيا إلا بعد أن تحولت إلى (أول مدينة في العالم) لا تعتمد في اتصالاتها على الأسلاك الهوائية أو الكيابل الأرضية بل وأول مجتمع في العالم يتجرأ على رمي هواتفه الأرضية في حاويات الزبالة .. وبطبيعة الحال ليس من الصعب معرفة السبب ؛ فبفضل ريادتها في صناعة الهواتف النقالة اكتشفت نوكيا قبل غيرها إمكانية الاستغناء عن الكيابل والأسلاك لصالح تقنيات أكثر تقدما تعتمد على التواصل اللاسلكي البحت (خصوصا في ظل تراكم الثلوج وأشهر الشتاء الطويلة التي تعوق أعمال الصيانة في فنلندا) !! ... وما حدث في بلدة نوكيا (منذ عشرين عاما) نراه اليوم يحدث بالتدريج في معظم أنحاء العالم . ويعود السبب الى أن معظم الناس وأنت منهم أصبحوا يميلون أكثر وأكثر إلى استعمال تقنيات التواصل اللاسلكي . أضف لهذا أن أنظمة التواصل اللاسلكي وصلت لدرجة كبيرة من الفعالية والمنافسة في التكلفة بحيث أصبح من الحمق اعتماد تقنيات الأسلاك والكيابل الأرضية في المجتمعات والمدن الحديثة.. وكانت مجموعة غارتنر (لأبحاث السوق وعادات المستهلكين) قد ذكرت في آخر تقاريرها أن ثلث سكان أمريكا وأوربا تخلوا حاليا عن هواتفهم الأرضية بفضل انتشار الاتصالات اللاسلكية وشبكة الانترنت .. ولاحظ أن "الثلث" المعني هنا هو الفئة التي امتلكت الجرأة على رمي هواتفها الأرضية نهائيا كون 70% من سكان العالم يعتمدون اليوم على الهواتف المتحركة والاتصالات اللاسلكية البحتة !! وبيني وبينك ؛ مايجعل الشبكات الأرضية تعمل حتى الآن أمران لا يتعلق أي منهما بتقنية الاتصالات : الأول أن الشبكات الأرضية في العديد من الدول (موجودة ولم يطلها الصدأ بعد) وبالتالي يصبح استعمالها أرخص من أي أنظمة لاسلكية جديدة .. أما الثاني فهو تخوف الناس من احتمالات الانقطاع والتشويش وعدم التغطية التي يلمسونها في الاتصالات اللاسلكية (رغم أنها مشاكل لم تعد موجودة في الدول المتقدمة، ورغم أن التشويش أفضل من الانتظار قرب هاتف ثابت) !! ... ومع هذا يدرك الجميع أن المستقبل سيكون لجانب الأنظمة اللاسلكية والهواتف المتحركة التي (حالما تتخلص من آفة التشويش والانقطاع) لن تزيح فقط الهواتف الأرضية بل وأيضا التلفزيون، والكومبيوتر، والكتب الورقية، والبريد الإلكتروني، وأجهزة تصفح الانترنت وعرض الأفلام والموسيقى والبرامج التلفزيونية وجميعها مزايا مدمجة موجودة حاليا في الهواتف المتقدمة ولا يعوق استخدامها سوى ضعف الشبكات المحلية وجهل الناس بطرق استعمالها !!! ... وفي حين سيسلم وجه الأرض مستقبلا من الحفريات والخدوش ، أتساءل إن كان من المناسب إطلاق اسم "هواتف" على هذه الأجهزة المجنونة !!