يقول الأستاذ سمير عطاالله الكاتب المبدع والمميز في جريدة الشرق الأوسط في إحدى مقالاته، إن الكاتب قد يواجه بين حين وآخر ما يسمى في الأدب الروسي محنة (الليالي البيضاء حيث لا أفكار ولا مواضيع، ولا حدوثات ولا ذكريات ولا كتّاب، أحياء وسابقون، نقتطف من إرثهم فكرة تعالجها على طريقتك، ومن زاويتك، ولزاويتك - صوت يلّح فين موضوع بكره؟)·أعجبتني فكرة الليالي البيضاء، حيث أنها كثيراً ما تحكم مواعيدها حولي وتظل تتجول في أماكني، تسرق لحظات الكتابة، وتغيّب الأفكار·تفتح الصفحات وتغلقها، دون أي قدرة على ملامسة أي فكرة مطروحة رغم تعددها·منذ مساء الخميس أحاول أن أكتب، ولديّ عشرات الأفكار المعلبة والطازجة، ولكن في المقابل احتوتني عشرات الأعذار للهروب ومغادرة هذه اللحظة التي وإن أتت فإنها مفرغة من كل شيء· اتّكأت على أعذار الانشغال بشيء آخر، أو الأمل المعلق للهروب والتذرع بفسحة الزمن القادمة غداً·بدت لحظة الهروب وكأنها خريطة مفتوحة المعالم، وجدت وهي تنتظر أن تحتل من قبل الهاربين والمغادرين، والباحثين عن ظل يحتمون به في أزمنة الليالي البيضاء·يوم الجمعة وقعت في خطأ الاعتقاد بأنني قادرة على الكتابة رغم المحاولات غير الجادة في حصار اللحظة التي كنت أعتقد أنها ستأتي لا محالة·صباح السبت كان الأمل الأخير، والذي تهيأت لمصافحته من الليل·التفت إلى تفاصيل الزمن الذي يتسحب، والطريق المتسع الذي يمتد أمامي، ولم يمنع ساعاته أن تمضي·الواحدة ظهراً، وأنا أطرح استقالة هروبي ليوم الأحد عن نشر المقال، شعرت أنني منحت نفسي استراحة محارب لم يحارب، ولم ينهض حتى للقتال رغم أن الساحة كانت·تناديه وأنا أرتكن إلى حيرتي، وأحاول الوقوف على جسور خسرتُ حضورها رغم أن المقاعد ظلت شاغرة إلى آخر لحظة، تلقيت اتصالاً من الجريدة يتساءل الزميل المسؤول عن الزاوية التي لم تأت في موعدها·وأنا استمع إليه وهو يتحدث كنت أحاول على عجالة الاعتذار بلباقة المقاومين· ولكن··· لكن ماذا؟؟ما سبق كان الجزء الأول من مقال يوم الثلاثاء الذي نُشر بعنوان «لماذا لم اكتب»؟ أو الصفحة الأولى جمعني أدق، والتي تاهت، أو فُقدت لأسباب فنية، ونشر المقال بعدها مبتسراً، حيث شعرت وأنا أقرؤه بحيرة مزدوجة تمثلت في إما كتابة مقال جديد ليوم الخميس، وترك هذا المقال المبتسر يفهم منه القارئ بالطريقة التي تعجبه، أو التنويه بأنه كان استكمالاً لمقال لم يكتمل، وجزء من مقال متكامل·والواقع أن القارئ في المحصلة لا يعنيه من قراءة زاوية سوى ما يهتم به من طرح لموضوع، أو مناقشة لقضية تشغله، أو إضاءة لفكرة ظلت بعيدة، وهذا هو الصواب·ما يعنيه أن يقرأ ويتحقق لديه شيء من هذه القراءة، وأن يشعر بأن الكاتب قادر على الطرح بمفهوم يستحق القراءة· وبكتابة تدفع إلى طرح الأسئلة باتجاه البحث عن الإجابة·لكن هذا الطرح الذي يبحث عنه القارئ وهو حق أساسي من حقوقه لدى الكتّاب يكسره الكاتب أحياناً ليبحث عن نفسه من أجل أن يصل إلى القارئ بصورة أفضل، وبكتابة تحاول انتشال نفسها من دائرة الفرق اليومية في التكرار والتهميش·يحاول أن يجد خيارات أفضل، تدفعه بأن لا يعيد طرح نفسه بنفس الصورة ولا يطيل الجلوس في المكان الواحد، وأن تكون لحظة الغياب القسري عن الالتقاء بلحظة الكتابة نوعاً من المراجعة والتصحيح، وإعلان داخلي لحالة ينبغي الإمساك بها بهدوء وتروّ·ومعرفة للطريق الذي وإن بدا أوله معروفاً، فإن آخره ينبغي أن تكون تعرف على الأقل ملامحه·