سمعتُ انتقادات وألماً وغضباً عما يفعله الأطفال في المدارس عندما تنتهي السنة الدراسة أو حتى الفصل الدراسي، فيقذفون بالكتب حال خروجهم من صالات الامتحان، وعتب البعض وانفعل البعض الآخر ولكني قلت رأيي منذ سنوات ان هذه ظاهرة صحية، وتحدثت يوم ضج الكل وضاق بظاهرة التفحيط بالسيارات، وما استجد علينا في ذلك الوقت من اندفاع الشباب بسياراتهم والتوقف فجأة والانحراف يمينا ويساراً والتعمد في إظهار صوت احتكاك الكفرات بالأرض وغير ذلك من الحركات المختلفة وقلت بصراحة: ياقوم لا تستغربوا ولا تغضبوا ولا تلوموا الشباب، فهذه ظاهرة صحية. وأنا أكرر اليوم بأن قذف الكتب هو ايضا ظاهرة صحية لأنه يأخذ بأيدينا ويضعها على مكامن الداء الذي كان دفينا في النفوس فطفح على السطح واصبح ظاهراً للعيان، ولا شك ان هؤلاء الذين يقذفون بالكتب ويزداد عددهم يوماً بعد يوم ويلفتون الانظار إلى قضايا جوهرية يعاني منها هذا الجيل، ولابد لنا ان نهتم بهم بدلاً من شجبهم وبدلاً من تعنيفهم ولا بد ان نعود إلى أنفسنا ونتساءل: لماذا يقذفون بالكتب؟ ومتى بدأوا يقذفون بها؟ ما هي الأسباب الجوهرية التي دعتهم إلى هذا القذف؟ أي قوى داخلية في انفسهم تدفعهم إلى ذلك؟ هل هو الإهمال؟ هل هو الكبت والرغبة في التعبير عن مكنونات النفس؟ هل هي الأسرة التي انشغلت عن ابنائها؟ أم هي المدرسة التي لم تعد تُعنى بحاجات الطالب في هذه الفترة الحرجة من حياته .. هل هو المدرس أم هي المناهج وكثافتها أم تلك الأوزان الثقيلة من الكتب التي تنهك ظهورهم عند حملها أم مجموعة عوامل ساعدت على تلك الظاهرة؟ اننا نمنعهم من حقهم في التعبير عما يجيش في صدورهم، ونقتل الابداع وروح الابتكار بمنعهم من ممارسة الحرية في التعبير، وليت الأمر وقف على هذا الحد إذن لهان الخطب ولكننا لا نعطيهم من الوقت ما يكفي لأن يفتحوا لنا قلوبهم ويفرغوا مكنونات صدورهم، فالأب مشغول في الخارج، والأم مشغولة في الداخل، والمدرس مشغول ايضا ولا يكاد يفرغ من اعطاء الدروس حتى يسرع بالخروج من الفصل دون وجود وقت للحوار والمناقشة. هكذا يظل المراهق والشاب في حيرة وقلق وتوتر ورغبات داخل صدره تغلي وتلح طالبة التنفيس ولما لا تجد ذلك التنفيس تخرج في شكل انفعالات عنيفة منها ذلك القذف للكتب وذلك التفحيط بالسيارات ولولا هذا التفحيط وذلك القذف لما ظهرت كوامن الانفعالات المكبوتة في النفوس. ومن المهم أن يدرك المجتمع مسؤوليته تجاه هؤلاء الشباب وان يحرص على تفهم رغباتهم وطموح هذا الجيل واحتياجاته وان نعمل ما نستطيع لسد الفجوة بين كلا الجيلين، ولابد من تفهم مشاكلهم وتوفير المرونة الكافية لهم حتى تتبلور إمكاناتهم وكفاءاتهم وتتضح معالم شخصياتهم، ولابد من اتصال مباشر بيننا وبينهم حتى لا تنقطع الصلة وتتعطل قنوات الاتصال، ولابد ان نعي دورنا بالنسبة لشغل أوقات فراغهم وبصورة خاصة الفراغ النفسي لدى الشباب ومن الأهمية بمكان ان يكون هناك هدف معين يدورون حوله، أو شعار خاص بهم، او قضية تجمعهم، أية قضية شبابية كانت، او رياضية، أو فنية، أو علمية .. وإذا كانت الأمم المعادية للإسلام قد جعلت للشباب مؤتمرات ومعارض ومباريات وغير ذلك فان الواجب علينا نحن ان نربط شبابنا بهدف او قضية ينشغل بها وينفس عن طاقاته في العمل من أجلها ولابد ان نعرف هنا ان الشباب لايكون صاحب قضية إلا اذا تفاعل مع الأحداث أو انفعل بها ولم يدعها تمر به دون ان يشارك فيها. كم من مراهق يريد ان يسأل ويسأل، ولكنه لايجد من يوجّه إليه اسئلته ليعطيه الإجابة السليمة، كم من شاب يريد ان يستشير وان يتعرف إلى آراء من هم أكبر منه في السن والعلم والخبرة والتجربة، ولكن احداً لا يستمع له فالوقت ضيق لدى الجميع. كم من فتاة تريد ان تضع رأسها على صدر أمها ثم تروح تتكلم وتتكلم، وتروي ما تحس به إلى أمها أصدق صديقاتها على الاطلاق ولكن الأم مشغولة إلى درجة لاتسمح لها بإعطاء الوقت الكافي لابنتها. والعلاقة بين المدرسة والبيت ليست وثيقة بالدرجة الواجبة والتي ينصح بها التربويون، بل انها تكاد تكون مقطوعة، واننا نرى مدارس تدعو إلى اجتماع لأولياء الأمور فلا يحضره أكثر من خمسة عشر ولي أمر أو مندوباً عنه مع ان المدرسة تضم الف تلميذ، ونرى مدارس اخرى تكتب التقارير المختلفة وترسلها إلى أولياء الأمور فلا تحظى بالإجابة المجردة، فضلاً عن الحضور والتفاهم حول أسباب كتابة التقرير ومناقشة ظروف التلميذ في المدرسة والاشتراك في حل مشكلته إن كانت له مشكلة يعاني منها. والسؤال الذي يتردد من هؤلاء الآباء وربما الأمهات ايضا هو ماذا يريدون: نقود؟ ملابس؟ الخ.. وكأنهم يريدون ان يريحوا ضمائرهم بمجرد البذل المادي وهم في ذلك غافلون عن حقيقة مهمة واساسية هي: (ان المادة المجردة لا تربي اطفالا) ومن اراد ان يكون له اولاد فعليه ان يربيهم في حدود طاقته في المنزل وان يتعاون مع المدرسة أو المعهد الذي يدرسون فيه. وعلينا ان نلتفت إلى التوجيه الإلهي الكريم عن اصول التربية والعناية بالأطفال والناشئة: (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا). أصبحت مدارسنا تشغل الطلاب بمناهج طويلة ومرهقة وتحشو أذهان التلاميذ بمواد كثيرة وثقيلة على النفس ومملة في كثير من الأحيان، وحتى على قلوب المدرسين أنفسهم الذين يقذفون بها إلى الطلاب قذفا، وكأنهم يصفعونهم بها على وجوههم، وتبقى المشكلة الأساسية ان المدرس ليس له الوقت الكافي ليجلس إلى ابنائه الطلاب ويسمع منهم ويتحاور معهم، فهو مشغول بكثافة المادة التي يريد أن ينتهي منها، إضافة إلى ان ظروف العملية التعليمية اضطرت الكثير من المدارس للتعاقد مع مدرسين قد لا يكونون مؤهلين تأهيلاً تربوياً كافياً يؤهلهم بدوره للعملية التعليمية ولكنهم متميزون في مادتهم العلمية، وبهذا يكون اداؤهم ناقصا فالعملية التعليمية ذات شقين اساسيين لابد من اكتمالهما :الجانب العلمي والجانب التربوي، ولا يغني احدهما عن الآخر، وعلينا ان نتذكر ان المدرسة كانت تُعنى في السابق بالأخلاق وعلم الأخلاق وتوعيتهم بهما لأن القضية تربوية كما هي تعليمية. وليت شعري هل ندرك جميعاً ان العملية التعليمية لها خصائص أساسية في كل مرحلة من المراحل؟ فالمرحلة الابتدائية وهي مرحلة تعتبر اساسية في التربية وبصورة خاصة في مجال السلوك وعملية محو الأمية لدى الطفل، والأخذ بيده ليعرف كيف يقرأ ويكتب وكيف يتعايش مع المجتمع من حوله في وقت تختلف فيه المرحلة الثانوية اختلافا جوهرياً لأنها مرحلة تثقيف وبلورة للمفاهيم والتعرف على المواهب، فاذا وصلنا إلى المرحلة الجامعية بدأنا في مرحلة التخصص، ومن ناحية اخرى تبقى النظرة للمدرس الكفء على انه حجر الزاوية الذي يعمل على تنفيذ المنهج عن طريق قدراته الذاتية واستيعابه للمادة وقدراته التربوية سواء عن طريق دفع الطلاب إلى القراءة الحرة أو النشاط اللاصفي أو حتى بالقدوة الحسنة والسلوك العلمي القويم عوضاً عن هذا الرفض الذي نراه والذي يتمثل في قذف الكتب مباشرة بعد الخروج من صالات الامتحانات. ومن هنا فإني اقول بكل صراحة وصدق إنه قد آن الأوان للتعمق في مثل هذه المظاهر والظواهر، ومعرفة اسبابها لأن لها أسباباً أساسية وعوامل قادت إلى مثل هذه الانفعالات والأفعال، ولا يصح ان ننظر لها من وجهة نظر سطحية أو نلجأ إلى فرض عقوبات أو إملاءات، وانما لابد ان ندرس لماذا يحدث هذا؟ وما الذي يدفعهم إلى ذلك لأن ما يفعلونه بلاشك هو نوع من التعبير عن الانفعالات التي في انفسهم والنقص الذي يحسونه والإهمال الذي يلقونه، ولهذا لابد من نظرة جادة في التعليم ومناهج التعليم واساتذة التعليم ومناخ المدرسة وان القضايا التربوية لا تقل اهمية عن الناحية التعليمية، وان الخطة الدراسية اصبحت ترهق الطالب والطالبة، فلا يكاد يعود أحدهما من مدرسته إلا ويجد ان امامه كماً من الواجبات المدرسية لابد ان يقوم بها فيضيق صدره بالعلم والتعليم والاستاذ وهذا ما يدفعه إلى هذه الانفعالات إلا من رحم ربي، هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى لنتذكر اننا في خضم ثورة اتصالات وثورة تقنية في العلم وثورة إعلامية وبرامج تؤثر في سلوك الأطفال وتربيتهم ونحن في غفلة عن ذلك وإلا فإن هؤلاء الأولاد سوف يستمرون في التفحيط وقد ينطلقون إلى ما هو أخطر، وهؤلاء الأولاد يقذفون بالكتب وقد ينطلقون إلى ما هو أكبر فيقذفون أساتذتهم بهذه الكتب ثم يقذفون مدارسهم. تنبهوا يا قوم قبل فوات الأوان!! تنبهوا يا قوم قبل فوات الأوان!!