من مهرجان الهاى لربيع 2008، اخترت التوقف بفعالية يمكن أن أطلق عليها صفة العمل الجمعي الشامل: العمل الفني المشترك المدعو (تييرا دي نادا) (tierra de nadie) أو (No man land) أرض لا أحد. عمل يختبيء كنقش محفور يمتد بين جدران قصر كارلوس الخامس (Carlos V)، وقصر (Nazari palace) حيث يوجد ذلك الفضاء الحميم الذي ليس له مالك، وليست له هوية يقوم شاهقاً مثل هرم عتم بين القصرين. ولقد تشارك إنتاج هذا العمل (أرض لا أحد) ثلاثة من الفنانين من دولٍ مختلفة يمثلون هويات وثقافات مختلفة ، تشارك في إخراجه الفنان (Eugenio Ampidia) من أهم ممارسي فن التصوير (digital) المعروفين بأسبانيا، والفنان يزن الخليلي (Yazan Al-Khalili) من المصورين الفلسطينيين المعروفين برؤيتهم الحديثة، والفنان (Noel Wallace) من أكثر الراقصين ومصممي الرقصات البريطانيين إبداعاً وتميزاً، والذي عمل لفترة مع البالية الوطني البريطاني، ولقد تعاقدت معه مؤسسة دولفينا ببريطانيا (المعنية برعاية الفنانين المتميزين والمشاريع الفنية الرائدة)، وذلك للمشاركة في إخراج هذا العمل للحياة للمساهمة في مهرجان الهاي. في قاعة من قاعات قصر كارلوس الخامس، يرتقى إليها بدرجات، تفاجئك في حوائط الحجر القديم الشاهقة شاشات عرض سينمائية ضخمة معلقة على ارتفاع شاهق، بالغة الحداثة ورغم ذلك تستوعبها تاريخية المكان وتضفي عليها سحراً: على الشاشة المواجهة يُعءرَض عمل الراقص نويل، وتظهر بوابة من بوابات قصر الحمراء مغلقة يتحرك أمامها الراقص في زيِّه العسكري، مكرراً للانهاية حركة جندي في استعراض عسكري، حركة مقيدة لاتتراوح مكانها، تتكرر في ممرات من حدائق الحمراء ينحبس فيها الراقص يؤدي نفس الاستعراض المُقَيِّد، ثم يتبدل المشهد، لتنفرج الحركة، تُظهر الراقص في الساحة متحررا من الزي العسكري ملفوفا في رداء أبيض أشبه بالإحرام تنفرج خطواته، يعبر ساحة القصر، حتى إذا بلغ النافورة ينساب في مشهد يؤدي خلاله رقصة (أشبه باستيقاظ على العالم) طافياً بخياله الأقرب للنسك على مياة النافورة ومسطحات القصر المائية. في مشهد شاهق آخر علوي على الجدار المواجه، وفي شاشة تُجبر المُشَاهِد على ثني رقبته للوراء ليستوعب مشاهد الفيلم الذي يظهر فيه الراقص يودي بجسده تشكيلات متشابكة متكررة، ترسم منمنمات بأشكال هندسية إيقاعية، تُحيل الجسد البشري لمنمنمة ضوئية على جدران القصر العريق.. في فيلم آخر مواز على نفس الارتفاع جسد الراقص الملفوف برداء أسود يترك جذعه عارياً، ويتحرك في حركة بطيئة راقصة أشبه بحركات مقاتلي الساموراي، يظهر الراقص أعلى سطح القصر ووجهه المغطى بقناع مثلث عاكس، أشبه بمرآة تعكس الشمس والمَشَاهِد المواجهة، يتحرك الراقص المقنع في مستويين متناقضين، المستوى الأول يظهر الراقص محجوزاً في زواية سفلية معتمة (ملتقى جدارين)، أشبه بشق بين القصرين، قصر الحمراء وقصر كارلوس الخامس، الشق صاعد في العتم مثل هرمٍ من غموض في شظية السواد تلك يتصاعد التساؤل عن هوية هذا الجسد الراقص بقناعه المرآة وبتنورته السوداء كمحاربي الساموراي... هو جسد أشبه بسؤال كامن في الغموض بين عالمين.. المستوى الثاني، يُظهر الراقص يعبر على سطح القصر، يبين من الأسفل، قناعه القصديري المثلث يقوم بدور المرآة العاكسة، تُسقط شعاع الشمس على وجه المُشَاهد وعلى الحياة بالأسفل.. يرقص بشموخ مستقبلاً الفضاء حوله، مشرفاً على العالم مكتشفاً لملامحه العلوية.. وعلى شاشة ثالثة، تعرض في نفس الوقت فيلماً موازياً، يمثل تفاصيل اللقاءات الحية، والمتعددة بين الفنان الفلسطيني يزن ورواد قصر الحمراء والمقاهي والمنتديات الليلية، حوارات بلا نهاية أجراها الفنان أثناء إقامته لمدة شهر بمدينة غرناطة، وكلن قد استحصل على تصريح خاص بمغادرة فلسطين للمشاركة في هذا العمل، مما يمنحه نكهة خاصة، حين يصور اللذة التي يجدها الفنان في لقاءه والآخر خارج الحصار وخارج نكهة الحرب اليومية التي تُمثِّلها الحياة في الضفة.. الموسيقى التصويرية المرافقة للعمل كان لها حضور مميز، مع أنه لم يُشر إليها في المطبوعات التي تناولت العمل، ولا لمبدعها، وأدهشنا كيف أنها لم يُعتد بها كضلعٍ أساسي فيه، رغم حيويتها، وربما نجد تفسير ذلك في حرص المخرج على فكرة المثلث، وتقاطع رؤيا الفنانين وأعمالهم الثلاثة. التي تأتي كخلاصة للحوار بين الشرق والغرب، الحوار الوحيد المرجو في عالمٍ يصطرع ولا يمكن انتشاله من بؤرته إلا بالفن... هذه هي المرة الأولى التي يختزل عملٌ فني بهذا الحجم الفضاءات المكانية والزمانية لقصر الحمراء ويحتل بشاشاته المتعددة لجدرانه التاريخية ويستثمر نهكة الماضي مع غرابة الحاضر. ويركز هذا العمل الثلاثي على المواقف والمفارقات التي نشأت أثناء إخراج التجربة المثلثة للحياة، والعلاقة بين الموروث التاريخي الماثل في قصر الحمراء وغرناطة، والمشهد السياحي، والإبداع الفني، والتفاعل الذي تم بين الفنانين والفضاءات العامة والخاصة في الموقع، والخصوصية التاريخية التي لموقع الحمراء، والتي عالجها كل فنان وفقاً لخصوصية خلفيته ورؤيته. يقول الراقص نويل: (هذه التجربة غَيِّرَتءني، أعادت خلقي من جديد كفنان، ولن أنجو قط من البصمة التي تركها هذا المكان بروحي وعلى جسدي وإيقاعاته، أنا لم أعد نفس الشخص الذي بدأ هذا المشروع، هذا القصر، الحمراء، بتاريخه ومساحاته المباغته، صباحاته التي تسبق السياحة والأقدام... الليالي التي قضيتُها في هذه الأروقة اللانهائية والقادمة من أعماق التاريخ.. كل هؤلاء في جسدي الآن ورقصي... لقد جئتُ لهنا شبه محطم، لقد عشت تجربة مريرة في حياتي جعلتني أشك فيمن أكون وجدوي كينونتي، لكن هنا استعدتُ ذاتي.. شعرت باللانهائية التي للكائن البشري، أنا لم أعد أنا، أنا هذا المكان التاريخي، هذا التماهي في التواريخ والمراجع الثقافية والروحية، لحركاتي هذا العبق، والذي لن يفارق رقصي بعد الآن... في المشهد الذي اتحاور فيه هندسياً مع المساحة، لم أكن أنا من يقرر الحركة وإنما المكان يبعث حركته بجسدي، كانت أشبه بعملية حب جسدي، حيث أخضع لمس المكان، لإرادته التي تحركني وتعجن أطراف جسدي ليؤدي هذه الحركات... كَرَّرتُها لتُشَكِّل فسيفساء تغطي الجدار، تحول معها جسدي لفسيفساء تزين جدرانه تتلمسه بخشوع... أنا الحركة ضمن السكون، أنا الحي في خلايا التاريخ الصامت هنا...) أما الفنان الفلسطيني يزن الخليلي فيُصَرِّح: (على غير المُتَوَقَّع مني كفنان عربي وفلسطيني مُبءتَلَى بقضية المكان وتاريخيته، فإن قصر الحمراء كتاريخ لم يعنني كثيراً، بقدر ما أذهلتءني وهيمنت على حواسي حركتُه الآنية في زمننا هذا بصرف النظر عن خلفيته.. البشر والوجوه التي تستقطبها مدينة كغرناطة، البشر الذين التقيهم في المقاهي كل يوم من شهور إقامتي هنا... الحوارات المفاجئة وغير المُخَطَّط لها والتي خُضتُها مع روَّاد الحانات والمقاهي وساحات قصر الحمراء... الناس من كل المشارب صاروا جزء مني أنا الفنان الفلسطيني القادم من الحصار والأسوار وقالب الإرهابي، هنا أنا لم أعد الإرهابي بقدر ما كنت إنساناً متفاعلا مع الحياة لا مع الموت... كل ذلك صَوَّرتُه في فيلم الفيديو المُرَافِق لتجربتنا هذه المثلث المفقود أو أرض لا أحد الكامنة بين قصر الحمراء وقصر كارلوس الخامس، المساحة بين الإسلامي والمسيحي واليهودي.) أما الفنان الإسباني إيجينيو أمبيديا فيقول: (أنا حَوَّلتُ الراقص لمثلث عاكس، يعكس العالم حوله ويعكس جسد المكان هذا القادم من عصورٍ للتسامح وللإبداع البشري خارج الأطر الدينية والمجتمعية... المرآة التي يرتديها الراقص على وجهه، هي نحن، هذا المثلث الروحي الذي لا يجب أن نَتَحَرَّج في الوعي به وإخراجه من الصراع بهدف الإبادة لتوريطه في عملية مبارزة بهدف التلاقح.. هناك فرق بين فعل التدمير وفعل الاختراق بهدف الإحياء...) لقد اختار الراقص نويل الأزياء التي ظهر فيها / في مشهد حركته الصارمة العسكرية أمام أبواب قصر الحمراء وبوابات حدائقه، اختار بذلة جَدِّه العسكرية، وأما الحركات الصباحية أمام نوافير قصر الحمراء فلقد اختار لها تلك الثياب الشبيهة بثياب الكهنة أو النساك.. واختار تلك التنورة السوداء التي تُذَكِّر بالمحاربين الساموراي، لتعكس الكثافة القاعدية في مَشَاهد مثلث قناع المرآة... المثلث العاكس الذي يرتديه الراقص في الفراغ بين القصرين (الحمراء وكارلوس الخامس) قد يجيء بشكل عفوي، لكنه يوحي بالمساحة العاكسة التي سعت الأديان لتوفيرها، والتي هي في النهاية (هرم من أهرام) تُلَخِّص حاجة الإنسان للتسامي للمُطءلَق في محاولةٍ لعكس تجلياته على الأرض..