الشعوب التي مرت بمرحلة استعمارية في فترات مختلفة من القرنين الماضيين ثم نالت استقلالها، سواء كانت في آسيا أو في إفريقيا أو غير ذلك، خرجت من تلك المرحلة بأجساد تملؤها الكدمات وذاكرات يعمرها الفقد ويتخللها الانكسار. لكنها أيضاً تعلمت الكثير من المستعمر مما ترك أثراً بناءً على ثقافة تلك الشعوب. فقد كان للاتصال الإنساني الطبيعي آثاره التي لا تنكر والتي لم تنجم غالباً عن رغبة المستعمر أو حتى عن سعي من وقع عليه الاستعمار والاحتلال. فعبر الاتصال الإنساني انتقلت منجزات حضارية مختلفة سواء كانت منجزات تقنية أو فكرية أو إبداعية أو غيرها. ولاشك أن مجرد الإشارة إلى التجربة الاستعمارية كفيل باستحضار تجارب بعينها تميزت إما بطولها أو بمقدار العنف الذي اكتنفها أو بطريقة التحرر التي اتبعت فيها أو غير ذلك من سمات. وقد يجتمع في التجربة هذا كله أو بعضه. ومن تلك التجارب تقف التجربة الهندية دون شك شاهداً ضخماً على طول الفترة الاستعمارية وعنفها وتميز النضال الذي خاضه أبناؤها لتحقيق استقلالهم. كما أن تلك التجربة تقف أيضاً شاهداً على الأثر الثقافي للتجربة الاستعمارية، الأثر الذي عرفته من مناطق أخرى من العالم كالمنطقة العربية مثلاً، ولكن الهند عاشته على نحو ربما يصعب تكراره. من أهم ما يتيحه التأمل في تلك التجربة مساءلة بعض القناعات الراسخة أو الكليشيهات التي تسيطر على فهم العلاقات الثقافية وكيفية تشكلها وما يمكن أن تؤول إليه. بعض تلك القناعات يتصل باللغة وتأثيرها على الثقافة المحلية، فالهند التي تتحدث مئات اللغات وتشيع فيها لغات محلية محدودة وجدت نفسها تتبنى لغة غربية غريبة هي الإنجليزية لتصير هذه اللغة وسيلة تخاطب وتعبير يتجاوز الاحتياجات العملية إلى الاحتياجات الثقافية والإبداعية. وإذا كانت الهند تعيش وضعاً مدهشاً بسبب تحقيق هوية مشتركة وانتماء موحد رغم تعدد الإثنيات واللغات، فإن الحري بدخول اللغة الإنجليزية إلى ذلك المعترك من اللغات والانتماءات هو أن يزيد من حجم الدهشة لاحتفاظ البلاد بشيء اسمه الانتماء الهندي. ما حدث في الهند هو بالطبع جزء من قصة التطور الثقافي والأدبي لتلك البلاد في القرن العشرين. وفي هذا الإطار يقول قيصر حق وهو أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة دكا ببنغلاديش إن الإنجليزية هي ثالث وأحدث اللغات التي اقتحمت القارة الهندية: الأوليان كانتا السنسكريتية ثم الفارسية، الأولى جاءت مع القبائل الآرية التي وصلت الهند قبل ما يقارب الأربعة آلاف عام، والفارسية جاءت مع حكام الهند المسلمين ابتداءً من القرن الثاني عشر وحتى مجيء الحكم البريطاني في القرن الثامن عشر الذي جلب الإنجليزية ولم يأخذها معه لتصبح من ثم لغة مستوطنة. استيطان الإنجليزية في الهند أسفر عن تلبسها بلباس المحلية فنشأ ما يعرف "بالهندو إنجليزية" التي تفرعت إلى فروع أحصى الباحثون منها خمسة. وعملية التفرع جزء من عملية التحول التلقائي التي تمر بها أي لغة حين تستوطن مكاناً مختلفاً عن مكانها الأصلي (الإنجليزية الأمريكية والفرنسية الإفريقية والبرتغالية البرازيلية، نماذج من ذلك التحول الاستيطاني). كما أن من الطبيعي أن يؤدي ذلك أيضاً إلى تحول اللغة القادمة إلى أداة للتعبير الأدبي وليس العملي فحسب، فنشأ من إنجليزية الهند أدب مر بمراحل من التطور أثبت فيها أهميته وحضوره الفاعل في المشهد الثقافي هناك. الناقد قيصر حق، الذي أشرت إليه قبل قليل، يذهب إلى أبعد من ذلك ليجعل حضور الإنجليزية في الهند عاملاً رئيساً من عوامل النهضة الثقافية في شبه القارة من حيث كانت مصدراً لتعرف الهنود على معطيات الحضارة الغربية. هذا إلى جانب ولادة أدب متكامل هو الأدب الهندو إنجليزي. ومع أن ذلك الأدب لم يزدهر إلا في أواسط القرن العشرين فإن بعض الباحثين وجدوا نصوصاً هندية أدبية مكتوبة باللغة الإنجليزية تعود إلى نهاية القرن الثامن عشر. من تلك نص كتبه "سيك دين محمد" (شيخ دين محمد؟) يعود إلى 1794.ومما يوضح حجم التطور الأدبي للظاهرة الإنجليزية في الهند أن إحصائية ببليوغرافية نشرت عام 1981لما نشر من نصوص هندية أدبية بتلك اللغة ما بين 1827و1978، أي أثناء ما يقارب القرن ونصف، تربو صفحاتها على 621صفحة. مع الاتصال اللغوي بالإنجليزية كان طبيعياً أن يتزايد تأثير الثقافة الإنجليزية الأدبية بشكل خاص فيتلون الأدب المنتج في الهند بأطياف الأدب الإنجليزية وتياراته ونتاج كتابه. وقد وصل الأمر بذلك التأثر أن رأى البعض فيه ظاهر تبعية للأدب الإنجليزي، حتى إن الناقد الهندي/الأمريكي حالياً هومي بابا، المشهور بتنظيره لمرحلة ما بعد الكولونيالية، يصف أولئك الكتاب بالمستشرقين لإيضاح حجم تأثرهم بالنظرة الغربية للشرق، أي أنهم يكتبون من منطق اغترابي إزاء ثقافة، أو ثقافات، بلادهم تبدو به تلك الثقافات كما لو كانت غرائبية (إكزوتيكية). غير أن وجهة نظر أخرى، يمثلها قيصر حق، ترى أن "الشعراء الهنود في أفضل أعمالهم يظهرون حميمية واهتماماً يفتقده الإنسان لدى شعراء الغرائبية الغربيين". يضاف إلى ذلك أن من الشعراء الهنود الذين كتبوا بالإنجليزية من حققوا تفرداً جعل بعض الشعراء الغربيين من كتاب الإنجليزية يحرصون على الاطلاع على أعمالهم. ويذكر في هذا الصدد الشاعر الهندي الشهير طاغور الذي فاز بجائزة نوبل وكان على صلة قوية بشعراء الحداثة في اللغة الإنجليزية مثل وليم ييتس وعزرا باوند. فيما يتصل بالحداثة الشعرية يعد عام الاستقلال الهندي في مطلع الخمسينات البداية التقريبية للحداثة الهندية التي كان روادها مجموعة من الشعراء الشبان هم: نسيم إزكيل، وأ. ك. رامانوجان، وب. لال، ودوم مورايس. ويعد ظهور مجموعة إزكيل "وقت للتغير" في لندن عام 1951بداية مهمة للتحديث الشعري في الهند. ومع ظهور أولئك الشعراء تزايد الشعور بالحاجة إلى النشر المحلي بدلاً من الخارجي فنشأت "ورشة كتاب كلكتا" عام 1958التي كان من أوائل إصداراتها "الشعر الهندو إنجليزي الحديث" (1959). ويشير عنوان المجموعة إلى تحول استعمال عبارة "هندو إنجليزي" إلى وصف الأدب الهندي المكتوب بالإنجليزية حصرياً بدلاً مما كان سائداً وهو الإشارة إلى الأدب الإنجليزي المنتج في الهند إلى جانب الأدب الهندي. وكان من سمات الشعر الجديد حسب البيان الذي أصدره أعضاء ورشة العمل الصرامة الكتابية والتجريب والاتجاه نحو المحسوس والواقعي إلى جانب ظهور الصوت الخاص بالشاعر. غير أن الشعر الجديد لم ينج من تحفظات واعتراضات، مثلما أن مسيرته لم تخل من مواجهة للغربة الثقافية واللغوية وسعى من جانب شعرائه إلى تجاوزها أو التأقلم معها. ذلك ما ستتناوله المقالة القادمة بإذن الله.