عيدكم مبارك، وكل عام وأنتم بخير. في ليلة التاسع والعشرين من رمضان، خرجت من بيتي لأداء زكاة الفطر، تلك الزكاة التي أوجبها الله على القادرين، إضفاء للفرح والسعادة على نفوس الفقراء والمحتاجين. وقفت كما يقف كثيرون عند باعة زكاة الفطر، ووجدت نساء ورجالا وأطفالاً ينتظرون تلك الزكاة، من يراقب مشهد هؤلاء، وكيف يطلبون زكاة الفطر وكيف تستعاد عبر البائع بسعر أقل يعرف أن الهدف الحصول على المال القليل لا على كميات من الأرز.. فتلك الكميات تعود بعد قليل للتداول وهكذا. في مواقع أخرى لمثل هذه التجمعات الصغيرة، وجدت سيارات لجمعيات خيرية يمكن دفع الزكاة إليها لإيصالها لمستحقيها. المسألة لا تعدو شراء أكياس الأرز ورميها في شاحنة متوقفة تحمل اسم جمعية خيرية. وفي ظل ارتفاع أسعار الأرز وهو الطعام الأساسي، والقوت الغالب لأهل البلد، ارتفعت قيمة (الفطرة) الواحدة من الأرز الجيد الى عشرين ريالاً، تجار الجملة يؤكدون ارتفاع مبيعاتهم من الأرز هذا العام في رمضان بمقدار 20% مقارنة بالعام الماضي. أي أن هناك زيادة في الطلب وزيادة في السعر. شُرعت هذه الزكاة - كما أفهمها - طُهرة للصائم، ومشاركة للفقراء، بالفرح يوم العيد من أجل توفير ما يكفي لهم من الطعام، حتى يشعرون بالمعنى من مشاركة المجموع في هذا اليوم بحد الكفاية من الطعام ولا يشق عليهم البحث عنه أو توفيره في يوم عيد. يحمل الإسلام في عظمته مناسبات جديرة بأن تكون موارد متجددة وكافية توجه لخدمة جزء من المجتمع، خاصة تلك الفئات المعوزة والفقيرة والتي تحتاج تلك اللفتة الإنسانية والمشاركة الاجتماعية في يوم عيد. سواء في عيد الفطر أو عيد الأضحى. في نظري أن مناسبة العيدين، عيد الفطر وعيد الأضحى، من أعظم المناسبات التي تؤسس للمعنى الإنساني في المجتمعات المسلمة. فزكاة الفطر وكذلك الأضحية التي تتراوح بين الواجب لزكاة الفطر، والسنة المؤكدة للأضحية، لها معنى كبير يمكن أن يؤسس مشروعات تقاوم الفقر والعوز والحاجة، وبالتأكيد بعد زكاة المال الواجبة ولها النصيب في مواجهة ومكافحة آفة الفقر. هذه المناسبات تستعيد مفهوم التكافل والرحمة بين المسلمين. ومن العظيم أنها تشريعات لا يطالها الزمن، ولا تتراجع مع الوقت، وتصبح أكثر أهمية، بل أنها تزداد قيمة وتأثيرا بزيادة عدد المكلفين من المسلمين بأدائها. أتذكر فيما مضى أنه كان ثمة اختلاف بين الفقهاء في مشروعية إخراج الأرز لزكاة الفطر، لأن النص النبوي قدم طعام أهل المدينة في زمنه، ولم يكن من بينها صاع من أرز، لأنه لم يكن الطعام المعروف في المدينة في زمن النبوة. حتى أجاز العلماء الأفاضل إخراج زكاة الفطر من طعام الناس المعروف وهو الأرز في زمننا هذا، وهو طعام أهل مدننا اليوم. ومنذ وقت قريب بدأ بعض الفقهاء يتوسع في هذا الأمر، حتى أجاز إخراج هذه الزكاة نقداً. وهي مازالت قضية خلاف، إلا أنها اجتهادات تسع الناس اليوم. ما أطرحه اليوم ليس اجتهادا، ولن يكون توسعا في مفهوم زكاة الفطر، ولكنه سؤال للعلماء الأفاضل لعلهم ينظرون في هذا الأمر بما يحقق أهداف الشارع الكريم، وبحث عن وسائل أكثر تنظيما وتحقيقا لأهداف هذه الزكاة الواجبة في أيام مباركات. وهي محاولة أرجو أن تكون موفقة لتوجيه زكاة الفطر لتؤدي غرضها، وتحقيق أهدافها بطريقة أكثر جدوى مما هو معمول به أو قائم اليوم.ولتكون مظلة خير وإحسان وبر وإدخال السرور والفرح في نفس كل محتاج وفقير وعاجز. في مجتمعنا الذي نعرفه جيداً، لم تعد وجبة أرز تقدم لفقير أو معوز هي مصدر إدخال السرور والفرح على نفسه يوم عيد. ولا هي تلك الريالات القليلة التي يمكن أن يحصل عليها بما يقابل هذه الزكاة إذا أُخرجت مالا بطريقة فردية. ولكن في زمن تتعدد فيه الحاجات، وتصبح أكثر إلحاحا على رب أسرة فقيرة أو إنسان عاجز أو معوز، يصبح من المهم تنظيم دفع زكاة الفطر بما يحقق أهدافها ويكون استثمارا جيدا لمناسبتها. وإذا كان يمكن دفع زكاة الفطر لحالة عوز واحدة مهما كانت كميتها، فهذا يعني أيضا إمكانية أن تدفع له نقدا - كما أجاز بعض الفقهاء - بما يكفي حاجته ويخفف عنه متطلبات مناسبة عيد ويجعله في هذه الأيام المباركة يشارك اخوانه فرحتهم دون شعور بالنقص أو العوز. وعندما ندرك أن خير ما يدفع من زكاة الفطر هو الأرز الذي ارتفع سعر الجيد منه ليصل إلى ما يقارب العشرين ريالاً للصاع النبوي. وعندما نعلم أن عدد سكان المملكة من مواطنين ومقيمين جلهم من المسلمين يقارب العشرين مليونا، وأن الملزمين شرعا بهذه الزكاة السهلة الإخراج والقليلة الكلفة لا يقل عن خمسة عشر مليونا في الحد الأدنى.. سنجد أن هناك مبلغا يصل إلى ثلاثمائة مليون ريال سنويا يمن جمعها وإنفاقها في الوجه الذي خصصه الشرع الحكيم، وهو يهدف إلى تخفيف معاناة الفقراء وإضفاء السعادة على نفوسهم، سواء من خلال توفير الطعام أو اللباس أو الدواء أو احتياجاتهم الأخرى الملحة. يدرك الجميع أن مجتمعنا ليس مجتمع المدينة في زمن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. فهو مجتمع لم يجع لدرجة أن يفرح بوجبة رز في نهار يوم عيد. وان احتفظ بهذه الكميات من الأرز، فإن ما يذهب إلى صناديق القمامة بعد الطبخ أكثر بكثير مما تأكله الأسرة، وأن بعضا منها يعود ليباع في السوق من أجل المال القليل. ولا أعرف في مجتمعنا من ينتظر وجبة من الأرز في نهار يوم عيد ليشارك بقية المسلمين سعادتهم بهذه المناسبة. بينما أجد أن حاجات الناس تتعدد، ومشاكلهم تتزايد، وقنوات الصرف الضرورية تتراكم. وإذا كان النص النبوي الكريم قد جاء في زمن النبوة وفي مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام، فهو مجتمع حتما كان فيه من الفقراء من لا يجد قوت يومه، ومن المعوزين من يكدح طيلة اليوم ليفي بحاجته من الطعام. أي أن الطعام كان أولوية والنقد كان قليلا والحياة كانت أكثر مشقة. وإذا كان من الفقهاء من يجيز إخراج المبالغ المالية بما يعادل قيمة زكاة الفطر من الطعام، فهي مبالغ قليلة إذا أُخرجت عن أسرة واحدة ولا تكاد تفي بحاجة أسرة فقيرة أو معوزة. لكنها إذا جمعت وتراكمت شكلت مبالغ مناسبة قادرة على تقديم إسهام أفضل في خدمة أهدافها وتحقيق جدواها بما يكفي لتضييق الفجوة بين الفقر والكرامة خاصة في أيام عيد مباركات. إذا أمكن جمع مبالغ تصل الى ثلاثمائة مليون ريال كل عام، عبر مشروع يمكن أن يسمى مؤسسة زكاة الفطر، وهو حق لا يمكن إهماله أو تجاهله لأنه في مكان الوجوب للقادرين عليه وهم الأغلبية من السكان، ولا تشكل على الأفراد أي كان مستواهم عبئاً تئن منه قدراتهم على الوفاء على العموم ما عدا الفقراء المعدمين. وهي مصدر لا يتعثر ولا يرتبك ولا يتراجع بل تزيد موارده كل ما زادت أسعار أصناف الطعام التي يمكن إخراج الزكاة منها قياسا على القيمة، أو زاد عدد أفراد المجتمع المكلفين بإخراجها، وإذا كان هناك من الفقهاء من توسع في إخراجها نقداً، فهل هناك ما يمنع أن تجمع هذه المبالغ تحت عنوان مؤسسة زكاة الفطر، تصرف في وجوهها المشروعة للفقراء والمساكين، المدروسة أوضاعهم، والمعروفة احتياجاتهم، والمقدرة التزاماتهم بحيث يمكن الوفاء بها قبل أيام العيد. ألا يمكن أن يكون لباب الاجتهاد عند الفقهاء في هذا الزمن إسهام في تحقيق مفهوم زكاة الفطر على الوجه الأكثر فائدة وجدوى لتخفيف حالة فقر أو عوز. فهي بطريقة إخراجها في زمننا هذا قد تكون ضعيفة الجدوى في إدخال الفرح على قلوب الفقراء والمساكين والمعوزين. فهؤلاء لديهم متطلبات طيلة العام، ولديهم أمور باتت أولويات بعد أن أصبح الجوع شبحا بعيدا، ولم تعد الحاجة للطعام بهذه الطريقة هي المعول عليه في اضفاء الفرح والسرور وإدخال البهجة الى نفوس هدتها وطأة المرض أو الحاجة أو الفقر لحياة أكثر كرامة. تصورت في لحظة أن مؤسسة تسمى مؤسسة زكاة الفطر تجمع كل عام ثلاثمائة مليون، عبر وسائل يمكن تنظيمها، ومن خلال وسائل جمع أصبحت اليوم شائعة عبر حسابات مصرفية معروفة ومقننة ومن خلال لجان يمكن الوثوق بها في كل منطقة من بلادنا، وهي لا تحتاج أكثر من آلة صراف أو من خلال كوبونات صرف وحساب عدد أفراد الأسرة، وضربها بقيمة نصاب الزكاة من طعام الناس الجيد ليتم إيداعها، والوسائل كثيرة لجمع هذه الزكاة نقدا، وهي مبالغ لا تتناقص كل عام بل تزيد، وهي ليست صدقة أو منحة بل طهرة وواجب لا يكتمل واجب الصيام إلا بأدائها للقادرين عليها والمفروضة عليهم. إذا أمكن جمع هذه المبالغ المالية خلال العشر الأواخر من رمضان، من خلال قنوات مؤسسة لها صفة الوثوقية والنظام والمراقبة، ثم تم توزيعها بطريقة تحقق احتياجات الأسر الفقيرة ومن خلال قواعد بيانات يمكن ضبطها وتحديثها عن المحتاجين في كل مناطق المملكة وبما يحقق احتياجاتهم بغض النظر عن سقف تلك الاحتياجات، فهناك أسرة فقيرة ربما تحتاج 500ريال وربما أخرى تحتاج ألفي ريال. وهناك مدن تقل فيها الحاجة وهناك قرى تئن تحت ظروف الحاجة والعوز. وهذا في نظري اجدى وأكثر تحقيقا لأهداف هذه الزكاة، التي يمكن أن تساهم في دعم رب أسرة فقير لشراء ملابس عيد لأبنائه، أو سداد فاتورة كهرباء يعجز عن سدادها، أو توفير مناسبة كريمة تليق بيوم عيد يشارك فيها المجموع فرحتهم.. نعاني اليوم من ارتفاع أسعار الأرز بسبب الطلب المتزايد والهدر في آن. ونستهلك منه القليل ويرمى الكثير. بينما هذه الثروة المبددة كان الأولى أن توضع في مصارف تحقق إيجابية مكافحة الحاجة الملحة والفقر لمتطلبات قد لا يمكن الوفاء بها من خلال دفع الزكاة بطريقتها الحالية. لنتصور مؤسسة زكاة الفطر تجمع كل عام ما يزيد على 300مليون ريال، توجه في حينها لدعم الأسر الفقيرة قبل وخلال أيام العيد، عبر واجهة تنظيمية تحقق فيها شروط إبراء الذمة ليس فقط في دفع زكاة الفطر، ولكن في إيصالها لمستحقيها أيضا وبطريقة تحفظ لهم كرامتهم وتحقق لهم حياة أكثر هدوءاً واستقراراً في هذه الأيام المباركات. أطرح هذا السؤال على الفقهاء والعلماء والباحثين، لعل مثل هذه القنوات التنظيمية تحقق جزءاً مهماً من أهداف الشارع الحكيم في زمن تعددت فيه احتياجات الناس، وأصبح الوصول للمستحقين صعباً، وأصبحت الضرورة تتطلب تنظيماً أكثر جدوى.