قدرنا في هذا العام ان يسلمنا الحزن الى حزن، وأن يهوي من سماء العربية، حينا بعد حين، نجم من نجومها المضيئة، ويتركنا المصاب دهشين حائرين، ونحن نواري من احببنا التراب، نحتسبهم عند الله - تبارك وتعالى - ونبكيهم، ونشعر بعظم الخسارة التي نزلت بنا، إذ شيعنا، بموتهم، الأدب والثقافة والمعرفة، من رجاء النقاش، الى سامي خشبة، الى رؤوف عباس، الى محمود درويش. احسست بهول الكائنة حين بلغني نبأ وفاة الأديب الكبير عبدالله عبدالرحمن الجفري ( 1358- 1429ه)، الذي عرفته، من كثب، ونلت من محبته ما جعله قريبا من قلبي ووجداني، وكان في حياته وجهاده في الأدب والثقافة أنموذجاً للكلمة الحانية الرقيقة، فقد مكث هذا الأديب طوال عقود مضت ينثر الكلمة العذبة، ويعلمنا كيف نحب، وكيف نحنو على كلمات اللغة فلا نكلفها من أمرها ما لا تطيق، فكان الجفري، بحق، ذلك المثال الذي يوسع كلمات اللغة جسا ولمسا، ويبعثها دافئة، حية، عذبة، حلوة، وكان الجفري، كذلك، حارساً أمينا يذود عن الكلمة، ويتميز من الغيظ اذا ما احس بخطر يحيق بالتراث الذي ينتمي اليه، والثقافة التي مكث طول عمره حفيا بها، وقائماً بأمرها. ولم يكن عبدالله الجفري الذي قضى الى جوار رب رحيم، بالاسم الغفل في ثقافة المملكة العربية السعودية، ولكن كان له من الصيت وعلو المكانة، ما بوأه منزلة الرواد الكبار، وخرج بأدبه وفكره الى البلدان العربية، فعرفه المثقفون العرب، والشبان والشابات من قرائه، ذلك الكاتب "الرومنسي" الذي ألحوا في طلابه، فذاع اسمه في المحافل الأدبية العربية، قبل ان يتحقق لمن سواه من الكتاب والمثقفين السعوديين بعض ما حققه، وكان أمينا على ما اخذ نفسه به: أن يفي للوجدان، وأن يجرد قلمه، دون كلل او ملل، لأدب الوجدان، فكان شاعراً أصيلاً في نثره، وعسى ان يكون مثالاً عربيا حيا للكاتب الوجداني، ولم يتخل عن اسلوبه هذا وما اختطه لنفسه، حين تقلبت الأيام، وتبدلت الأفكار في السياسة والفكر والأدب، ما بين حقبة وأخرى. ويعرف الأدباء والمثقفون في بلادنا لعبدالله عبدالرحمن الجفري رعايته لأجيال من الكتاب والكاتبات، وعرف منذ شبابه المبكر بالريادة، وإن من يظهر على شيء من صحافتنا في عقد السبعين من القرن الهجري الماضي، يدرك المنزلة التي احتلها الجفري في ثقافة تلك الحقبة، فلقد دعا الى الثقافة الجديدة، وحشد حوله كوكبة من الأدباء الشبان، الذين آمنوا بمثل ما آمن به، وتحمسوا للأدب الجديد مثل حماسته، ومن اظهرهم عبدالفتاح ابو مدين، ومحمد عبدالله مليباري، وعبدالغني قستي، ومنصور الحازمي، ومحمد الشبل، وهاشم عبده هاشم، وعبدالله الحصين. وكانت صحيفة "البلاد"، ومن قبلها "البلاد السعودية"، في ذلك الأوان، الحضن الذي نما فيه الأدب الجديد الذي نافح دونه عبدالله الجفري، ونازل من أجله الشيوخ من الأدباء، ولا سيما عزيز ضياء - رحمه الله - الذي سخر بأدب أولئك الشبان، وجرد قلمه، وهو الناقد الكبير، للنيل من صوب عقولهم، وتحقق له ما انتصب له، بيد ان عبدالله الجفري لم يصخ اليه، وثابر وناضل وكابد، وحاول ان يستدر عطف ضياء وشفقته على أقرانه من الأدباء الشبان، قائلاً له: "ألم يفعل انتاج كل هؤلاء تطويراً في نفسك، لتطمئن ان هناك اتجاها لتطوير الأدب وتقويته، حرام على آرائك وتفكيرك - يا كاتبنا الكبير -"! وحين لم يجد من الأدباء الشيوخ من يدفع الأدب الجديد الى وجهته، جرد عبدالله الجفري قلمه لتلك الغاية، وخص طرفا من كتابته لنقد ذلك الأدب والدعاية له. ألفى عبدالله الجفري في القصة القصيرة الغاية والمطمح، وشهدت تجربته الأولى في الأدب عناية قوية بالقصة القصيرة. ولأنه ادرك ان لا طريق له سوى ان يكون داعية الأدب الجديد في بلاده، فقد خف يضع الصوى لتلك الدعوة التي آمن بها، وكانت الصفحة الأدبية التي اشرف عليها في صحيفة "البلاد" ذات عنوان دال هو "أدبنا الجديد"، وهو عنوان لا يعرف خطره الا من عرف من أدب تلك الحقبة نزاعاً وتخاصماً ما بين الأدباء الشبان والأدباء الشيوخ، والا من استشرف شيئاً من ثقافة ذلك الجيل، ووقف على تلك السطوة وذلك الجفاء اللذين كانا سجية لنفر من شيوخ الأدب، وأنبأ عبدالله الجفري في مقاله الذي افتتح به تلك الصفحة عن تلك الغاية التي نشط لها، وهي "نشر النتاج الجيد.. حتى نتدارك قيمة شعرنا، ونحميه من الهدر والضياع الذي يسير فيه.. وحتى يمكننا خلق أدب "القصة"، فنحن لم نزل في تجارب لم نخرج منها بفائدة مرتجاة مؤملة". وحين اعتزل جمهرة من رفقاء الجفري الحياة الأدبية، جعل هو يرعى موهبته، فكتب وأنشأ، وألف، ونشر، ووضع طائفة كبيرة من الكتب في القصة القصيرة، والرواية، والمقالة الأدبية والصحفية، والسيرة، والدراسة، وظل، وقد نهكه المرض واعتل قلبه، حريصاً على الكتابة، فارساً من فرسانها، ولم يسقط قلمه الذي هام به الا حين فارق روحه الجسد.