لقد طال الأمد بمثقفينا وهم يتحدثون عن الإبداع والابتكار، وكأنه المفتاح السحري للدخول إلى عالم المعرفة من أوسع أبوابه، متجاهلين أو متناسين أن تطور الشعوب في هذا الاتجاه يستدعي زراعة مفاهيم ثقافية وتنمية مهارات فنية وتطوير ميول واتجاهات إيجابية نحو ذلك كله تحت مظلة "ثقافة الإبداع والابتكار". وهذا يقودنا إلى التساؤل: "ما الفرق بين الإبداع والابتكار، وثقافة الإبداع والابتكار، وما هو الفرق بين التقدم العلمي والتقني، والثقافة العلمية يا ترى؟!". إن الإبداع والتقدم هما بعض مخرجات الثقافة العلمية، والثقافة العلمية في رأيي هي الوعاء والحاضنة والبيئة التي تتيح لمخرجات الإبداع والابتكار والتقدم العلمي أن تولد وتترعرع، فيخرج منها منظومات معرفية صناعية واقتصادية فاعلة، تستمر في النمو والتطور، ومن ثم تؤدي إلى توليد أفكار أخرى وإبداعات متتالية فيستمر الرقي وتستديم التنمية، وعلى النقيض من ذلك فقد تكون تلك البوتقة قاتلة للإبداع محبطة للتقدم طاردة للعقول معرقلة للتنمية. وهذه البيئة أو "الثقافة" موجودة بأشكال وصور مختلفة في كل المجتمعات، لذا فالإبداع يمكن إن يخرج حتى في أدغال أفريقيا وكهوف آسيا، ولكن ليس بالشكل المؤسسي ذي البعد الوطني الشامل وضمن منظومة المجتمع بمختلف فئاته الأهلية والحكومية. ووسيلة تحقيق ذلك في رأيي، هي تعزيز وتطوير وتوجيه بيئة ثقافة الإبداع العلمي والتقني، بما يتوافق مع أهداف محددة يجب إن ترسم أولا، وفق إستراتيجية وطنية واضحة دافعة، يقف وراءها رموز وطنية قيادية مؤمنة بهذه الرسالة، ويتم متابعة مخرجاتها في لقاءات وندوات ومؤتمرات مفتوحة، في جو من المصارحة والواقعية والشفافية، يحكمها الإخلاص والحب والانتماء. وفي غياب هذه الأهداف ربما نصبح على ما أمسينا عليه، وتستمر ثقافة التجاذب والتنافر بين الأقطاب والفعل وردود الفعل وعدم القبول والخوف من الجديد، ويتم بذلك تعزيز ثقافة التلقين والتحفيظ والتطعيس والتفحيط، فالعقل ليس وعاء يعبأ بل نار تؤجج. وهذا الهاجس أو الهم لا يقتصر علينا وحدنا، فهو مرسوم في أذهان الأمم جمعاء شرقاً وغرباً، وقد تصدت له مشكورة العديد من مؤسساتنا الحكومية والأهلية مثل الهيئة السعودية للمدن الصناعية ومناطق التقنية من خلال تطويرها لأنظمتها، بمؤازرة هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات التي قامت بتذليل العقبات نحو نشر تقنية المعلومات والاتصالات، ومدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية بمطبوعاتها ونشراتها ومشاركاتها المتعددة فعقدت - مؤخرا - ندوتين إحداهما تحت شعار (نحو إستراتيجية وطنية لنشر الثقافة العلمية) قبل عامين، آخرها عقده ندوة لبحث الوسائل والآليات إلى تعزز نشر الثقافة العلمية بالرياض منذ أقل من شهرين، بالإضافة إلى الجهود الأخرى التي تقوم بها مؤسسات مختلفة من محاضرات وندوات وجوائز، في محاولة جادة لرأب الصدع واللحاق بركب التقدم العلمي والمعرفي. وبالأمس القريب سعدنا بوضع حجر الأساس لوادي الرياض للتقنية في ربوع جامعة الملك سعود بمدينة الرياض الذي يمثل واحة يانعة ومرتعاً رحباً لتعزيز ثقافة الإبداع والابتكار بإذن الله، وفي السياق ذاته تم تأسيس مجمع الاتصالات وتقنية المعلومات بالرياض منذ عام، وتم تأسيس حاضنات للأعمال، وحاضنات للتقنية في مناطق شتى من المملكة. وجميع هذه الأعمال تمثل خطوات إستراتيجية نحو التحول إلى صناعة تقنية واقتصاد معرفي، فجزى الله خيرا كل من يحاول النهوض بهذه الأمة في مجالات العلوم والتقنية، لنصبح بإذن الله أمة منتجة وفاعلة أكثر من كوننا أمة تابعة مستهلكة، خاصة وأن الله عز وجل منح أمتنا مزايا اقتصادية واجتماعية وجغرافية وإستراتيجية وتاريخية عديدة، ونحتاج إلى تطوير الثقافة العلمية لشعوبنا وتطوير ثقافة العمل لدى ناشئتنا لينشغلوا بما ينفع أمتهم وأنفسهم بدلا من انشغالهم بثقافة الوهم والهم والهدم والهوى وبما يقتل الوقت والعقل والبدن. @ مستشار وزير الاتصالات وتقنية المعلومات، وعضو الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض، وعضو مجلس إدارة هيئة المدن الصناعية ومناطق التقنية .