في أثناء تأديته ساعات عمله كموظف بريد في مدينة الطائف، كان طلال مداح يهرب من أجواء الروتين اليومي بالاستماع إلى الأغنيات التي كانت تبثها الإذاعة آنذاك لعمالقة الفن كأم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وفريد الأطرش وغيرهم، وكان يشعر بالسعادة تغمر روحه ويظل أسيراً لتلك الأصوات والألحان التي يستمع إليها دون كلل أو ملل. كل الذين عرفوه في تلك الفترة يذكرون عنه حبه للفن الأصيل وذائقته الموسيقية الرفيعة -وهو الذي سيصبح بعد سنوات قليلة من أبرز الأصوات العربية، وأهم فنان سعودي- كما يذكرون موهبته الفذة في العزف على العود وعذوبة صوته، وكان في أثناء تلك الفترة يمارس هوايته الأثيرة، الغناء، في الحفلات الخاصة وكذلك في الحفلات التي كانت تقام في فصل الصيف في مدينة الطائف الجميلة. وفي لحظة فاصلة من لحظات حياته التقى بالسيد عباس غزاوي، المراقب العام في الإذاعة حينها، والذي استمع إليه وأبدى إعجابه بهذه الخامة الصوتية الفريدة، ودعاه للقدوم إلى جدة ليشارك في الحفلات المسرحية التي كانت تقيمها الإذاعة هناك، وكان ذلك في عام 1960، وكانت تلك هي النافذة التي فتحت أمام (طلال مداح) ليتسلق سماء النجومية. ولادة من رحم الموت كانت أول دقائق عمره هي آخر الدقائق في حياة والدته، التي توفيت أثناء ولادته، فتولت تربيته خالته التي أولته اهتمامها، فتربى في صدر حياته عندها في مكةالمكرمة، ثم انتقل إلى الطائف التي تعلم في مدارسها إلى أن اشتغل في البريد، وبدأ بمزاولة الغناء حتى سنحت له الفرصة وشد الرحال إلى مدينة جدة في عام 1960وبدأ مشواره الغنائي بأغنية "وردك يا زارع الورد" الذائعة الصيت التي لفتت انتباه الناس إلى الموهبة الطلالية. سفير الأغنية السعودية بالتعاون مع جيل الكبار آنذاك من فناني الحجاز مثل طارق عبدالحكيم وعبدالله محمد الذي كان أول أستاذ لطلال، وفوزي محسون وعبدالله كدرس وسراج عمر ازدهرت الأغنية السعودية لكنها لم تبلغ الآفاق العربية بشكل واسع إلا عندما انطلق طلال مداح واتجه إلى بيروتوالقاهرة وغيرها من عواصم الفن حاملاً على عاتقه مهمة إيصال الأغنية في السعودية والخليج إلى أسماع كل العرب. لقاء مع العملاق كانت لطلال مداح بعض التجارب الدرامية التي ساهمت في انتشاره، كان أولها في السينما عندما مثل أمام الفنانة الكبيرة صباح في فيلم "شارع الضباب" سنة 1965، تلا ذلك مسلسل تلفزيوني مع صديقه الفنان لطفي زيني عنوانه "الأصيل" الذي غنى فيها رائعته الشهيرة "سويعات الأصيل"، وكان ذلك في عام 1971.وبعد ذلك بخمس سنوات، وفي القاهرة عاصمة الفن، صدح بأشهر أغانيه "مقادير" الخالدة التي كانت من كلمات الأمير محمد العبدالله الفيصل وألحان سراج عمر، وما إن غابت شمس ذلك اليوم إلا وكان طلال على موعد مع موسيقار كبير، كان قد سمع به وأعجب بصوته ولحنه، هو الموسيقار محمد عبدالوهاب الذي لحن له قصيدة "ماذا أقول". مع البدر.. ثنائية مميزة في عام 1968التقى طلال بتوأمه الفني الذي شكل معه ثنائياً خطيراً في عالم الأغنية، وهو الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن، وكانت باكورة أعمالهما الأغنية الرائعة "عطني المحبة" المتفردة ببساطتها وشعبيتها فكانت أغنية الموسم في ذلك الحين، والأغنية التي لا يمل سماعها عشاق الطرب الأصيل إلى يومنا هذا، ثم توالت روائعهما مثل "الله يرد خطاك" و"زمان الصمت" و"ياصاحبي" وغيرها... وفي عام 1970كان لقاء التلميذ بأستاذه، لقاؤه مع محمد عبده في حفلة جماهيرية كبيرة غنيا فيها سوياً واطربا الجمهور المتعطش للفن الراقي، ومن تلك الليلة صار للأغنية السعودية هرمان شامخان. عودة للوطن.. والجنادرية سافر طلال مداح إلى لندن واستقر بها وخلال تلك الفترة انقطع عن الغناء حتى منتصف الثمانينات عندما عاد إلى جمهوره، وكان المكان هو الطائف، والمناسبة هو افتتاح البطولة العربية في عام 1985.وبعد عودته الناجحة بدأ اهتمامه يزداد بالتراث الحجازي واليمني وكذلك النجدي. ومن أهم محطاته الفنية هي مشاركته الدائمة في مهرجانات الجنادرية للتراث والثقافة التي ترعاها رئاسة الحرس الوطني، ومن أشهرها أوبريت "عز الوطن" الذي كتب كلماته الشاعر بدر بن عبدالمحسن وتغنى به ولحنه لوحده، وعندما اشتعلت حرب الخليج الثانية تفرغ للأعمال الوطنية فقدم أعمالاً حماسية شحنت النفوس بالحس الوطني. الأستاذ وتلاميذه وفي المرحلة الأخيرة من حياته الحافلة بالعطاء اهتم بالكثير من الأصوات الشابة ومن أهمها الفنانة ذكرى التي لحن لها باقة من أجمل أغانيها الخليجية. ولا يزال كثير من الأجيال التي تأثرت بطلال وتراثه ومدرسته الفنية تذكر ذلك الشيء وتعترف بأستاذيته وأسبقيته في هذا المجال كعبادي الجوهر وعبدالمجيد عبدالله ومحمد عمر وغيرهم الكثير. طلال: العازف الموهوب وكانت موهبته من الأشياء التي لا يجادل فيها اثنان فمنذ تعلمه العزف على آلة العود في الخمسينات عند أحد أصدقائه ويدعى عبدالرحمن الخوندله، دأب على تطوير موهبته حتى وصل إلى أن يصنف من ضمن البارعين في العزف على العود، ليس هذا فحسب، بل تعدى ذلك إلى تميزه في العزف على عدة آلات أخرى مثل الغيتار والكمان. ولديه العديد من المقطوعات الموسيقية. بين المجيء والرحيل.. مشوار كبير في عام 1939ولد "طلال عبدالله أحمد الجابري" الذي صار اسمه طلال مداح، نسبةً إلى خاله، وفي يوم 11أغسطس من عام 2000فارق الحياة.. الحياة التي كانت حافلة بالإبداع والعطاء والتي قضى معظمها في وطن اسمه "الفن". إن طلال من القلة الذين غنوا من أجل الفن ومن أجل جمهوره، ولا أدلّ على ذلك من احتضانه للعود لحظة وفاته.. وبكلمات دافئة ودّعه رفيق دربه بدر بن عبدالمحسن قائلاً: "طلال مداح فنان متميز، ومدرسة مختلفة عن سابقاتها.. وقد مر ذلك الفنان بمراحل عدة ارتفع رصيد نجاحه وتناقص.. ولكن تميزه وتفرده ليس فقط في صوته اللين الدفيء القوي.. إنما في شخصيته البسيطة الطيبة.. وأفكاره وفلسفته الخاصة بالأشياء.. رحم الله طلال". يوافق اليوم الاثنين الذكرى الثامنة لرحيل الفنان الكبير طلال مداح الذي رحل عن دنيانا في الحادي عشر من أغسطس 2000على مسرح المفتاحة في مدينة أبها أثناء تأديته لوصلته الغنائية ضمن حفلات المفتاحة الغنائية إحدى فعاليات مهرجان أبها السياحي.