لو كنت مسؤولاً سياسياً في بلد "نامي"، ماذا ستصنع عندما ترتفع أسعار السلع الأساسية بشكل مفاجئ لأسباب خارجة عن إرادتك؟ بل وإمكاناتك كدولة في بعض الحالات؟ هذا ليس سؤالاً افتراضياً، بل واقع واجهه مسؤولون في أكثر من 37دولة حول العالم منذ أواخر 2006، حين بدأت أسعار الغذاء العالمية - لا سيما القمح والأرز والحبوب الزيتية - بالارتفاع تدريجياً لتصل إلى مستويات قياسية، حيث ارتفع سعر الأرز الذي يستهلكه ثلثا سكان العالم إلى 75بالمائة خلال العام الماضي، فيما قفزت أسعار الحبوب 42بالمائة، والزيت إلى 50بالمائة، ومشتقات الحليب إلى 80بالمائة. وبحسب تقرير أصدرته منظمة الفاو (FAO) مؤخراً فإن أسعار الغذاء العالمي ارتفعت خلال العام الماضي إلى 23بالمائة على الأقل. هذه القفزات السعرية كانت مؤثرة إلى الحد الذي اضطرت معه منظمات إنسانية - كأميركان أيد ومنظمة الغذاء العالمي - إلى تخفيض مساعداتها الغذائية لمناطق منكوبة مثل دارفور لعدم قدرة ميزانياتها الراهنة تغطية التكاليف. ارتفاعات هذا العام كانت الأبرز، وقد عكست المظاهرات والمواجهات بين المواطنين وأجهزة الحكومة في 16عاصمة -فقط خلال الأشهر الثلاثة الماضية - حجم الأزمة التي يمر بها العالم، فمن الأرجنتين حتى الكاميرون، ومن القاهرة حتى باكستان شلت الإضرابات والمظاهرات عددا من المرافق الحكومية، وأقلقت الحالة السياسية، وإذا كنت تعتقد أن هذه الأزمة تتعلق بالدول الفقيرة فقد تكون مخطئاً، إذ أن الزيادة في أسعار طاولة الطعام "Table food" الصغيرة قد ارتفعت بنسب تتراوح ما بين 12إلى 20بالمائة في عواصم مثل نيويورك ولندن وطوكيو، وهي أزمة أفردت لها قناة ال (CNN) سلسلة من التغطيات تحت عنوان "أزمة البيجل" - الكعك الشهير بانتشاره في شوارع منهاتن - ، والذي أصبح شراؤه مكلفاً - نسبياً - لأصحاب الأجور المتدنية. في الشرق الأوسط، الأوضاع لا تبشر بخير، فأزمة السلع الغذائية باتت واضحة في مدن مثل الرياض وعمان والرباط وغزة وغيرها على درجات متفاوتة. ولعل تجربة مصر الحالية هي الأبرز والأقسى، إذ اصطفت طوابير طويلة من المشترين للرغيف المدعوم حكومياً لساعات خلال الأسابيع الماضية، فيما دعا مجموعة من النشطاء السياسيين والحزبيين وعمال النسيج إلى "عصيان مدني" الأحد الماضي احتجاجاً على ارتفاع الأسعار، ورغم أن الدعوة لم تلاق استجابة كبيرة - كما توقع منظموها - لأسباب عديدة ليس أقلها العاصفة الترابية التي ضربت أجزاء من القاهرة، إلا أن من الواضح أن هناك أزمة حادة تذكرنا بأزمة مظاهرات الرغيف (يناير 1977) التي واجهت السادات على إثر رفع الدعم عن بعض السلع الأساسية، وهو أمر حينها قام به السادات استجابة لتوصيات صندوق النقد الدولي. أغلب جهود الحكومات الحالية جاءت مباشرة في صورة دعم للسلع الأساسية، أو التوجه نحو زيادة الإنتاج، وتثبيت ومراقبة الأسعار، وكذلك خفض التعرفة الجمركية، وفي بعض الحالات حضر التصدير أو تقليصه كما حدث بالنسبة للأرز في كل من مصر والصين والهند، ورغم أن مثل هذه الإجراءات ضرورية من الناحية السياسية لتهدئة الأزمة، إلا أنها لا تصلح كحلول على المدى المستقبلي وستزول قيمتها ليس بالضرورة بعد سنوات - بل ربما أشهر في بعض الحالات. شخصياً، لست أؤمن بتدخل الحكومة في الاقتصاد إلا في حالات الضرورة، وبحدود تحفيز الاقتصاد وخفض التضخم، أو ترشيد الإنفاق الحكومي والاقتراض. أما أن تلجأ الحكومات لتحديد الأسعار للسلع الاستهلاكية اليومية ودعمها -وإن كان مقبولاً في ساعات الحرج السياسي- فهو أمر ضد الاقتصاد على المدى البعيد، لأنه ببساطة يحجم من فرص النمو الاقتصادي، ويجعل الحكومة مضطرة إلى التدخل بشكل مجهري في أدنى درجات السلم الاقتصادي، أي رفوف المتاجر الصغيرة. لست هنا، لأبرئ حكومات المنطقة من أزمة ارتفاع الأسعار، ولكن علينا أن نكون واقعيين. هذه ظاهرة عالمية تسببت فيها عوامل أغلبها خارجة عن إرادة الدول المتضررة منها، ومحاولة تحميل الحكومات (وكذلك التجّار) المسئولية بالكامل سيزيد من توتير الأوضاع الاقتصادية في تلك الدول، لأنها إما ستجبر على مسايرة المطالب الشعبية بخصوص تحديد الأسعار أو دعم السلع، أو ستلجأ لخيارات اقتصادية محافظة وغير مشجعة على الانفتاح الاقتصادي. خذ مثلاً الأوضاع التي تجري في مصر، هناك أزمة حقيقة تتعلق بالرغيف وعدد من السلع الاستهلاكية. بيد أن هذه ليست إلا مشكلة ظرفية نتجت عن تأثيرات ارتفاع أسعار الغذاء عالمياً، الحكومة المصرية طرحت مجموعة من الحلول الظرفية كفصل الإنتاج عن التوزيع، ورفع كميات الإنتاج المدعومة، وهذا من شأنه أن يخفف الأزمة قليلاً، ولكن إذا أردت أن تكون منصفاً فإن المشكلة الأساسية تكمن في لجوء الأنظمة السابقة إلى سياسة الدعم، حتى أصبحت الحكومة وليس السوق المسئولة عن تحديد أسعار تلك السلع، وبالتالي توفيرها للمستهلك. أزمة ارتفاع أسعار الغذاء العالمي لها مسببات اقتصادية وبيئية وديمغرافية وجوية وغيرها. لقد ظلت السلع الغذائية الأساسية ثابتة الارتفاع نسبياً خلال العقود الثلاثة الماضية مع بعض الاستثناءات - كما يقول المختصون - ، وما حدث في السنتين الأخيرتين مرتبط بالنمو العالمي، فارتفاع أسعار الطاقة إلى 400بالمائة منذ 2003، وازدياد معدل الاستهلاك العالمي للغذاء، إضافة إلى النمو المضاعف لكل من الصين والهند - الذين يضمان أكثر من 40بالمائة من فقراء العالم - ، ناهيك طبعاً عن سوء الأحوال الجوية وتراجع الإنتاج العالمي للغذاء بمؤثرات "التغير المناخي" في أستراليا والهند وغيرهما. أما أحد الأسباب الرئيسية فهو تحول دول رئيسية مصدرة للقمح إلى استهلاكه كطاقة -كالولايات المتحدة التي تحول 25بالمائة من إنتاجها إلى (Biofuels)-، أو تقليص أراضي الإنتاج الزراعي لصالح الصناعات التحويلية كالصين والهند. إذا أردت أن تلوم حكومات المنطقة على سوء الإدارة الاقتصادية للبعض منها فذلك أمر مشروع، ولكن تذكر أن أزمة الغذاء لها أبعاد عالمية، وأن التوترات الشعبية تتزايد في كل أرجاء العالم، والمستقبل لا يبشر بخير. فبحسب تحذيرات منظمة الغذاء العالمي ( 6مارس) فإن الارتفاع في أسعار الغذاء ستتواصل حتى العام 2011، وهذا يعني أننا إما سنبقى مع أسعار غذاء هي على الأقل ضعف ما كنا ندفعه قبل عامين، أو أننا قد نواجه أسعار متقلبة وغير ثابتة للعامين المقبلين. هل ستتغير الأمور مستقبلا؟ الجواب يعتمد على عدد من العوامل، بيد أن غالبية السيناريوهات المحتملة تأمل فقط في ثبات وتراجع نسبي لهذا الارتفاع، لأن ما نعانيه اليوم هو ارتفاع في الطلب العالمي، وهو أمر قد يتراجع - نسبياً - مع انحسار النمو الاقتصاد العالمي المتوقع خلال هذا العام والذي يليه. هذه تقديرات بعض الاقتصاديين، ولهذا فإنه من الصعب على السياسي في منطقتنا أن يقرر ما يجب عليه فعله، لأن الأوضاع لم تصل لمرحلة مستقرة ولو نسبياً. إذا كان للمحللين السياسيين من نصيحة أو رأي في هذه الأزمة، فهو أن لا تلجأ الدول للمزيد من السياسات النقدية المحافظة، أو التدخل بحلول ظرفية ولكنها منهكة للميزانيات، أو مهددة لفرص النمو والتنفس الطبيعي للأسواق. الأزمة قائمة وستستمر، وعلى السياسيين أن يدركوا أن بعض الامتعاض والضغط الشعبي يمكن تحمله، ولكن لا يمكن تحمل تراجع نوعي في بنية ومسار الاقتصاديات المحلية. هناك مقولة حكيمة للسياسي الآيرلندي إدموند بيرك: (حين ينتظر الناس من الحكومة تأمين الرغيف، فسوف ينقلبون عند أول إشارة لنقص المؤن إلى اليد التي أطعمتهم ليعضوها). فكروا بحلول إستراتيجية طويلة المدى، وتجنبوا الثقب الأسود للإنفاق الحكومي.