الليل من حولها ساكن ورعشات الهواء العليل تعبث بستارة نافذتها.. وعيناها ترقب ذلك العبث بكل دقة كما لو أنها تخشى أن تفوتها حركة تتغير أحداث قنصتها التي تسترجعها يوماً إثر يوم.. كان عمرها يحسب بفرحتها.. بوهجها.. وتألقها.. فاليوم أجود ما يكون من الأمس.. فتزداد في السن صغراً.. كان عمرها أرج الأزهار تفوح بشذاه اليوم تلو اليوم كما النبتة الناعمة في حديقة تنبت في الأرض خضرة.. لاشيء يعكر مجرى حياتها حتى في أحزانها وهمومها.. فالفرحة في حياتها تجعلها فرحتين والحزن تحوله نصف حزن.. نسيم ليل عليل يعبث بستارة نافذتها.. وعقارب الساعة الثالثة فجراً.. ووجع الذكرى يعيدها إلى ماض قريب مؤلم.. حول عمرها إلى ضعفه.. وانتصاراتها إلى هزيمة.. والفرحة اليوم في حياتها نصف فرحة والحزن أصبح حزنين.. تحول سحرها الأخاذ إلى وردة ذابلة وإن كانت تحتفظ برائحة طيبها وترسم على محياها ابتسامة الشحوب كل صباح.. كل مفاهيم الحب.. والتسامح التي كانت تجمل بهما نفسها لايمانها بالتجاوب الروحي بين القلوب الإيمانية العامرة بالحب الإلهي مبدأ عليه يسيرون لسر أودعه الإله في دواخلهم به يتسابقون إلى الكسب الرباني.. أخذ منها منحنى آخر.. فلم تعد تلك القدرة للتعاطي معه وكأن كل ما عرفته عن العطاء والصدق والحب مفاهيم في زمن اللا عودة.. وكأن الحياة كل الحياة أشياء مكذوبة تكبر مع الإنسان فيصدقها.. وتصغر كل الحقائق في نفسه ونفس الآخرين فينكرها.. سنونها الأخيرة من عمرها غير محسوبة في زمنها إلا بكدها ووجعه.. ومرضها.. ودعواتها تزداد ارتعاشات الهواء في محاولة اختلاس جلسة معها بعد أن أدماها الألم وأرقها السهر.. همس لها بأن الشمس لا يشعر بدفئها إلا من استظل بوهجها وجعل من ضوئها نوراً لعتمة يومه.. همس لها: بأن النوائب تخلف دوماً سراً عظيماً يغير الدنيا إلى دنيا جديدة ترد عليه الحزن والدموع إلى ارتسامات لطاف وتهنئة ربانية إن كان يُتبع حزنه رضى ومسرة.. يهمس لها: بأن في دنياها حمامة بيضاء تحلق في سماها كل ليل تسامر وحدتها وتردد حديثها الأزلي.. (لا تكوني إلا أنت بلا ادعاء)..