ما علاقة عمران مدينة الرياض ببيئتها؟ هل يساهم في تلوثها أم في حمايتها؟ سؤال واسع توجهنا به إلى الدكتور محمد الشريم عضو هيئة التدريس بكلية العمارة والتخطيط بجامعة الملك سعود فأكد لنا أن البناء بأشكاله المختلفة يعد أبرز النشاطات العمرانية المؤثرة في بيئة مدينة ضخمة بحجم الرياض ذات نمو متسارع، وهو نشاط يساهم في أصله في تلويث البيئة، كحال بقية الأنشطة العمرانية من استخدام وسائل المواصلات والتصنيع بل وإعداد الطعام وتناوله، فهذه كلها تستهلك موارد الطاقة الطبيعية المحدودة وتترك وراءها مخلفات ضارة غالبا بالبيئة، كالأبخرة والغازات السامة والنفايات الصلبة. ورغم ذلك لا يرى د. الشريم أن هذا الأمر مشكلة كبرى تستدعي القلق، لأن البيئة بطبيعتها التي خلقها الله قادرة على إعادة التوازن البيئي مادام في الحدود المعقولة، مثلما كان يحدث في المجتمعات الزراعية والرعوية التي عاش فيها أسلافنا عدة قرون ولم يعانوا من مشكلة تلوث البيئة يوما ما. ولكن المشكلة - في تقدير د. الشريم - تكمن في بضعة أمور، منها زيادة الاستهلاك للموارد الطبيعية، ففي حالة العمران تعد الصخور والتربة (التي يصنع منها الطوب والخرسانة والزجاج) والمعادن (كالحديد والألمنيوم) من الموارد الطبيعية المهددة بالشح الشديد وربما النضوب، وهذا يساهم بدوره في خلخلة التوازن البيئي الجيولوجي الذي يعتمد على الاستهلاك المتزن الذي يمنح البيئة نفسها وقتا كافيا لاستعادة ما فقدت دون أن تتأثر بقية عناصرها ومكوناتها بشكل يهددها ومن يعتمد في حياته عليها من بشر ونباتات وحيوانات. والأمر الآخر الذي يسبب المشكلة هو ترك كميات هائلة من مخلفات البناء الصلبة التي تحتاج البيئة إلى زمن يصل إلى مئات السنين حتى يمكن لتلك المخلفات أن تتحلل حيويا وتندمج في دورة الطبيعة من جديد. والمشكلة - كما يقول د. الشريم - أن كثيرا من تلك المخلفات تلقى في مكبات على ضفاف الأودية، مما يجعل تلويثها لمناطق أخرى أمرا شبه حتمي نتيجة سقوط الأمطار وذوبان جزء من تلك الملوثات ووصولها إلى المناطق الزراعية التي تمر بها مياه تلك الأودية، أو بتسربها إلى الخزانات الطبيعية للمياه في جوف الأرض. هذا بالإضافة إلى أن كثرة أعداد الأشخاص الذين يتعاملون مع البيئة العمرانية بالشكل نفسه، وهو الذي فرضته علينا الحضارة المعاصرة، مما جعلنا نبني بيوتنا مثلا بالطريقة نفسها، إذ لابد من تكسية الواجهات بالحجر أو الرخام، ولابد من دهان الجدران بطبقات من الأصباغ البترولية، إلى غير ذلك، مما فرض استخداما جائرا للبيئة ومواردها بنسبة تفوق بكثير ما كان معهودا في الأزمنة الماضية. ومن الأمور الأخرى يذكر د. الشريم المبالغة في توفير احتياجاتنا ولو لم تكن ضرورية، حيث أصبحنا نستخدم مواد تشطيبات داخلية وخارجية الغرض منها في الأغلب جمالي صرف. والمبالغات الجمالية تدفع بعشرات الألوف من أصحاب المباني إلى ترميمها بعد عشر أو خمس عشرة سنة من سكناها، حتى تساير المعايير الجمالية المتغيرة. وهذا يعني مزيدا من الاستهلاك للموارد الطبيعية ومزيدا من الملوثات التي تلقى مع مخلفات البناء في أماكن ربما تشكل خطرا على البيئة الطبيعية للمدينة وما حولها. ناهيك عن ضخامة المباني واستخدام مواد بناء غريبة على بيئتنا - كالواجهات الزجاجية العملاقة - يعني مزيدا من الاستهلاك للطاقة، وبالتالي مزيدا من مخلفاتها الضارة التي تخرج إلى الهواء ومن ثم تدخل إلى دورة الحياة الطبيعية التي توصل تلك الملوثات إلى الإنسان، وكذلك إلى النبات والحيوان الذين يتغذى عليهما. مقترحات مقترحات عديدة يقدمها د. الشريم لتصحيح حالة عمران مدينة الرياض بحيث يصبح مساهماً في حماية بيئتها وليس في تلوثها، فمن وجهة نظره يعتبر أن إدراك أهمية حماية البيئة وتقليل التلوث الناتج عن التعامل الإنساني معها هو بداية طريق التصحيح. وهذه تتطلب برامج شاملة على كافة المستويات حتى تحقق أهدافها. والشمولية في المعالجة تتطلب إصدار قوانين وتشريعات تنظيمية لاستخدام الموارد البيئية، سواء ما كان بالمستهلكات أو المخلفات. ومن مقترحات د. الشريم التي تشير إلى بعض ما يمكن عمله على المستوى العمراني لحماية بيئة مدينة الرياض: الاهتمام باستخدام مواد بناء اقتصادية لا تستنزف موارد بيئية كثيرة وتحقق الاحتياجات الإنسانية من توفير للطاقة المستخدمة داخل المباني. ولعل النظام الصادر قبل عدة سنوات بوجوب استخدام العزل الحراري في المباني العامة ثم الخاصة وتفعليه يؤكد إدراك الجهات المسؤولة لأهمية هذه النقطة. وهذا الأمر برأيه يحقق هدفين بيئيين رئيسين، أولهما تقليل استخدام الطاقة الصناعية لتكييف المباني مما يحفظها للاستخدام المستقبلي، والثاني تقليل التلوث الناتج عن استخدام تلك الطاقة سواء أثناء الحصول عليها وتهيئتها تجاريا للمستهلك أو أثناء وبعد استخدامها في المباني. أما مقترحه الثاني فيتضمن الحث على تطبيق فكرة البيئة المستدامة (sustainable environment) وذلك باستخدام أقل ما يمكن من وسائل التكييف أو الإضاءة الصناعية، من خلال تشجيع الحلول ذات الكفاءة العالية سواء ما كان منها مستخدما في عمارتنا التقليدية، أو الأساليب الحديثة كالاستفادة من مصادر الطاقة النظيفة كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح. ويضيف د. الشريم مقترحاً ثالثاً يتضمن استصدار قوانين لحماية المناطق الطبيعية المهددة، ولدينا عدة تنظيمات لحماية الحياة الفطرية الحيوانية والنباتية في محميات خاصة يمنع فيها الصيد والاحتطاب. وهذه خطوة كانت ضرورية في وقتها، وبدأنا نلمس شيئا من آثارها خلال فترة تقارب العشرين عاما فقط. والمطلوب أن يكون هناك تنظيم للمناطق التي يمكن استخدامها كمصادر لمواد البناء الخام، مثل بطون الأودية والجبال، إضافة إلى الأماكن التي يمكن إلقاء مخلفات البناء فيها. ويؤكد د. الشريم أهمية نشر ثقافة إعادة الاستخدام (reuse)، ومثال ذلك تشجيع استخدام بعض عناصر البناء لاستعمالات أخرى ملائمة، مثل استخدام الأبواب والنوافذ القديمة في بناء الملاحق والمستودعات والاستراحات، مع بعض المعالجات التي تزيد من كفاءتها، بما يقلل تكلفة البناء على صاحب المنزل. بل إنه يمكن أن تتولى بعض الجهات تنظيم أسواق لعناصر البناء المستعملة، تماما مثل محلات الأثاث المستخدم، مما يرفع الوعي بهذا المبدأ البيئي، هذا بالإضافة إلى مقترح خامس يعتمد على تكثيف الدراسات التجريبية على إعادة تدوير مخلفات مواد البناء (recycling)، فعلى سبيل المثال، يقول د. الشريم أنه يمكن دراسة جدوى استخدام بقايا الطوب الإسمنتي بعد تكسيره في إعداد خلطات الخرسانة في بناء عناصر ربما لا تكون رئيسة من الناحية الإنشائية، كالممرات الخارجية أو الأرضيات، لما في ذلك من توفير مادي على صاحب المبنى، وتقليل الاستنزاف البيئي والتلوث في الوقت نفسه. وفي ختام حديثه "للرياض" يشير د. محمد الشريم إلى أننا الآن في مرحلة زمنية نعاني فيها من إفساد بشري للبيئة واستخدام جائر لمواردها بشكل غير مسبوق. ويأسف من أن مصالح الدول العظمى أصبحت تتحكم في سياساتها وقوانينها التي تحكم تعاملها مع البيئة. ولذلك نجد أن الاهتمام بالبيئة سيعكس بعد فترة لا يظنها بعيدة مستوى المعيشة، لاسيما من الناحية الصحية، وانتشار الأمراض المستعصية كالسرطان في بعض المناطق فقد تبين أن سببه كان زيادة تلوث - ما - في تلك المنطقة بدرجة سببت خللا في أجسام الأشخاص الساكنين في تلك المناطق أو بالقرب منها. ويمنحنا د. الشريم بصيص أمل يؤكد فيه أن البيئة في مدينة الرياض لازالت في وضع يمكن تداركه بشكل كبير، ولكن لابد من نشر الوعي البيئي على كافة المستويات. ولابد كذلك من تربية النشء على احترام البيئة والنظر إليها على أنها مستقبلنا، وينوه إلى أننا جميعاً مسؤولون عنها، وإلقاء اللوم على جهة أو أخرى لن يغير من الواقع شيئا، بل ينبغي التكاتف وتناول الموضوع بوضوح وصراحة وواقعية، فنحن ببساطة بحاجة إلى نقل مفهوم التربية البيئية إلى حيز التنفيذ، وجعله جزءا من حياة الناس يتعرضون له في الشارع والصحيفة والتلفاز وغيرها، ولعل الفعاليات الثقافية والترفيهية - لاسيما الصيفية التي يقصدها أعداد كبيرة من الناس - تساهم في تحقيق شيء من هذا الأمل الذي نرجو أن نراه متحققاً على أرض الواقع قريباً.