كان السيد روجرز المتقاعد والذي يعيش في احدى المدن الأمريكية، يستيقظ يومياً من نومه حوالي السادسة صباحاً، وقبل السابعة والنصف بقليل يرتدي معطفه الأصفر المصنوع من مادة تشبه البلاستيك، ويتجه إلى تقاطع يبعد عن منزله حوالي 50متراً حاملاً معه علمه الأحمر الصغير. لم يكن روجرز يعمل مع الدفاع المدني أو ما شابه بل كان متطوعاً في مجلس الحي الذي يسكنه ويقتصر تطوعه على مساعدة طلبة المدرسة الابتدائية في حارته على عبور الطريق وقت الذهاب إلى المدرسة ووقت الخروج منها. ولحماية الأطفال من تهور بعض قائدي المركبات كان روجرز يرفع علمه لتحذير السائقين وحثهم على التوقف حتى يستطيع الأطفال الوصول إلى الضفة الأخرى من الشارع حيث تقع المدرسة، وهكذا يفعل يومياً حتى بعد انتهاء وقت المدرسة في حوالي الساعة الثالثة بعد الظهر. لقد دأب روجرز على هذا العمل في جميع فصول السنة، لا يتأنى عنه في جميع الظروف على الرغم من انه عمل تطوعي بادر هو بالبحث عنه ولم يكن يتقاضى أجراً عليه. هذا هو الاندفاع لعمل الخير والرغبة في خدمة المجتمع بأي شكل، فروجرز رأى بعد تقاعده أن من واجبه كمواطن ان يسعى بعمل مفيد طالما ان صحته ووقته يساعدان على ذلك. وفي يوم من الأيام تلقى روجرز رسالة بالبريد من مكتب محافظ المدينة يدعوه فيها إلى الحفل الذي سيقام على شرفه لتكريمه في خدمة تلاميذ المدارس الحكومية. كانت فرحة روجرز تتعدى الوصف إذ ان المحافظ سيسلمه بنفسه شهادة التكريم وسيشهد أبناؤه وأحفاده وزوجته هذا الحدث الكبير، وستلتقط كاميرات الإعلام هذه اللحظات المهمة في حياته. وفي الحقيقة أن روجرز كان يعي بأنه لن يحصل على مبلغ مالي أو ميدالية ذهبية أو غيرها من المكافآت النقدية في هذا النوع من التكريم، ان الورقة التي سيستلمها من يد المحافظ والتي تشهد بجهوده في خدمة وطنه تكفي لتجعله يشعر بالفخر والزهو والكرامة التي يطمح إليها كل إنسان في هذا الوجود. ان روجرز واحد من ملايين الرجال والنساء الذين يكرمون في الولاياتالمتحدة أما لبحوث قاموا بها أو لتطوع في خدمة المجتمع أو لأعمال أخرى نبيلة. اطرح هذا المثال هنا كمقدمة لقضية التكريم في المملكة، وكيف ان هذه القضية تكاد أن تكون معدومة على جميع المستويات، فالجامعات لا تقوم بها إلا نادراً، وكذلك المراكز البحثية والجهات الأخرى في الدولة. عندما كنت أدرس في الجامعة كان يتردد على مسمعي حديث عن باحث في التراث يسمى محمد عبدالعزيز القويعي، فكنت أحياناً أجد اسمه موقعاً تحت مقال في مجلة علمية، وأحياناً أخرى أرى اشارة لاسمه في مقالات الباحثين في التراث، ولم يحدث أن رأيته أو تعرفت عليه. لقد هالني من خلال قراءتي لكتابات هذا الرجل أو من سماعي لمقابلاته في المذياع المعرفة الواسعة التي يملكها في مجال التراث السعودي من شعر ونثر وقصص وحكايات ومسميات لمفردات التراث الشعبي واستعمالات الأدوات وأنواعها وأشكالها، انه موسوعة تراث شعبي تمشي على الأرض عافاه الله ومد في عمره. وقد سنحت لي الفرصة مرة أن أحضر مؤتمراً متخصصاً بالتاريخ والآثار فكان هناك الاستاذ القويعي يلقي ورقة عن التراث الشعبي في المملكة والتي شد فيها انتباه الحاضرين بحسن إلقائه وواسع معرفته. وفي الواقع ان وزارة الإعلام اهتمت بهذا الرجل فأذاعت برامج ومقابلات له في التلفزيون والراديو السعودي وساهم هو بدوره بتعريف الجمهور بالتراث الشعبي السعودي المادي والمعنوي، فكان يعرف كل نوع من الملبوسات الشعبية وكل حلية ويذكر أشعاراً شعبية أو حكايات أو أمثالاً تناسب هذا الثوب التقليدي أو تلك القلادة أو الأداة. فهذا الرجل كما أسماه أحد الباحثين "الرجل المتحف" لم يبخل بمعلوماته على جمهوره ولا بمؤلفاته التي دأب سنوات عديدة على اعدادها، حيث نشر الكثير من المقالات المتخصصة بالتراث وأصدر موسوعة من خمسة مجلدات في هذا المجال. ومن الجدير بالذكر ان الاستاذ القويعي الذي أمضى أكثر من أربعين سنة من حياته في خدمة التراث يملك متحفاً خاصاً في منزله يشمل جميع عناصر التراث الشعبي من صور ووثائق وكتب وأدوات وآلات وملابس وحلي وغيرها. لقد فتح الاستاذ القويعي متحفه للباحثين وأكرمهم في منزله كرماً حاتمياً، فزار متحفه العديد من الأجانب والشخصيات وكتبت عنه احدى الصحف اليابانية، كما مثل المملكة في بعض المعارض والمهرجانات الخارجية. لقد جمع هذا الكم الهائل من التراث المادي بجهده الشخصي وكان في أغلب الأحوال يؤثر التراث على رفاهية أبنائه. عمل القويعي مع شركة أرامكو حتى تقاعد منها قبل حوالي خمس سنوات ولكن لم يتوقف يوماً عن هوايته وعشقه للتراث فكان يسافر إلى مناطق المملكة ليجمع القطع ومن ثم يتقصى عنها ليوثقها حتى اصبح خبيراً في هذا المجال. ان الاستاذ القويعي غني عن التعريف فهو رائد البحث التراثي في هذه البلد والحفاظ على التراث يقتضي احترام مصادره، أي حملة التراث الذين ينقلونه من جيل إلى آخر ويحافظون عليه ويساعدون على احيائه والاحترام الجدير بهذا الإنسان هو تكريمه وتشجيعه على ما بذل من جهد ليحافظ على تراث المملكة، كما أن هذ التكريم قد يحث الآخرين على الاقتداء به في المواطنة الصالحة. وهنا أرفع هذا المقال إلى الجهات المختصة في المملكة الرسمية والأهلية لتكريم هذا الرجل تكريماً لائقاً بجهوده الكبيرة ومساهماته البحثية وحفظه لتاريخ مدينة الرياض التي ولد وعاش فيها وعاصر أحداثها فسجلها في ذاكرته ليرويها للناس ويسطرها في مؤلفاته حريصاً في نفس الوقت على المصداقية والعلمية. وكما قيل "خير البر عاجله" فيا حبذا لو كرم هذا الرجل في المستقبل القريب ليشهد العرفان الذي يستحقه ويصبح قدوة طيبة لغيره من الباحثين السائرين على الطريق. @ باحثة في التراث