الدار العريقة دار النهضة العربية (لمؤسِّسها مصطفى محيي الدين كريدية) فاجأت المشهد الثقافي العربي العام الماضي في معرض القاهرة يناير 2007بعرض أوائل إصدارات كتب شعرية ذات لون وحجم موحد حيث تنوَّعت الأسماء من الشعراء والشاعرات: ديوان "الغيوم التي في الضواحي" (محمد علي شمس الدين من لبنان)؛ "قصائد اميركا" (أكرم القطريب من سوريا)؛ "ليلة سريعة العطب" (عائشة البصري من المغرب)؛ "عظمة أخرى لكلب القبيلة" (سركون بولص من العراق)؛ "كم يبعد دون كيشوت" (عبد الغني محمود من المغرب)؛ "على انفراد" (حسن نجمي من المغرب)؛ "كتاب العصا" (المنصف الوهابي من تونس)؛ "لا أكاد أرى" (ياسين عدنان من المغرب)؛ "الواحدة بعد منتصف العمر" (محمد بعيو من ليبيا)، "ثمة ضوء آخر" (أحمد الغزي من تونس)؛ "هناك تبقى" (محمد بنيس من المغرب)؛ "ملعب من الوقت النائم" (زكي بيضون من لبنان)؛ "قال سليمان" (سليمان جوادي من الجزائر)، "طاسيليا" (عز الدين ميهوبي من الجزائر)؛ "اسماك تتنكر بهيئة الموج وتضرب الشاطئ" (ناظم السيد من لبنان)؛ "تاريخ قصير" (رنا التونسي من مصر)؛ "أكياس الفقراء" و"خطوات ملك" (شوقي أبو شقرا من لبنان)؛ "النشيد" و"بعيداً عن الكائنات" (عبد المنعم رمضان من مصر). وقد حضرت بعض هذه الإصدارات في معرض الرياض فبراير 2007فيما وعدنا من الناشرة كريدية أن ستطبع كتباً أخرى لبول شاوول وعباس بيضون وعبده وازن وانسي الحاج وفادي طفيلي ورامي الأمين.. قبل نحو سبع سنوات تسلَّمت لينة إدارة دار النهضة العربية للطباعة والنشر والتوزيع. كان تحدياً أمامها بحكم كونها الابنة البكر أن لا تفرط في إرث والدها الثقافي، الذي يقارب عمره عن نصف قرن. أسَّس مصطفى محيي الدين كريدية (والد لينة) دار النهضة العربية عام 1966إثر تسلُّمه إدارة المطبوعات الجامعية لكلية الحقوق والتجارة والآداب عند تأسيس جامعة بيروت العربية ونجحت الدار في تزويد طلبة الجامعة بمطبوعات لمناهج البرامج الدراسية وقليلاً توسعت إلى مواضيع ذات شان ثقافي منها نشر كتب تراث محقَّقة ثم تعرَّضت لحريق إثر الاجتياح الإسرائيلي عام 1982لكنه أعاد الحياة لها العام التالي بموقع جديد وجهَّز مستودعات لها، واتسعت رقعة تعاملها إلى شمال أفريقيا في ليبيا والجزائر ثم في عام 1999أسَّست شيرين دار أصالة للنشر والتوزيع مختصة بكتب قصص الأطفال، وعندما توفِّي أبو محمد عام 2000، ورث الدار بناته: لينة ونسرين وشيرين، والأخ الأصغر محمد ، فأدارت لينة الدار وأعدَّت خطة نشر كتب شعر تصل إلى 16مجموعة شعرية في السنة لمختلف الشعراء العرب كما أنها تتطلع إلى دعم المواهب الشعرية الجديدة كذلك إعادة نشر الأعمال الشعرية النافدة للشعراء والشاعرات العرب كل هذا باستراتيجية جديدة لعالم النشر العربي تطمح بها للتواصل مع دور نشر تركية وإيرانية كذلك أمريكية. وتبدأ الحكاية عند لينة كريدية من تذكرها تلك الحادثة - نهوض والدها بعد حريق الدار إثر اجتياح بيروت 1982- وضعتها لينة نصب عينيها منذ وقع الخيار عليها لتسلّم إدارة الدار: "كان علي أن أفتح صفحة جديدة في حياتي، تكون أكثر جدية. أعترف أني عانيت كثيراً في البداية لأثبت ذاتي أمام أسرتي والعاملين في الدار. وبعد تثبيت خطواتي أخذت أفكر في بصمات تشبهني، أضيفها لمسيرة الدار التي تطبع المقررات الجامعية والأكاديمية. بصمات يحفظها التاريخ برسم المستقبل. كنت مفتونة بالشعر، إنما ذاك النوع الذي يحاكي ببساطته ورهافته المشاعر بعيداً عن التعقيدات والاستعراضات. من هنا ولدت الفكرة في ولادة مشروعي الشعري الذي يأخذ على عاتقه نشر دواوين لشعراء معروفين، أو مبتدئين ضمن عقد يكفل حقوق الشاعر من دون تكبيده أعباء كلفة النشر. المهم في الخطوة المعنوية للدار أن نعيد لبيروت رهجتها في زمن يعلو فيه صوت المنادين ب"موت الشعر" ومرض مدينة الشعر. المدينة التي احتضنت منذ عقود شعراء الحداثة". بعد المشروع الشعري الأول الذي نجح في ضم أبرز الشعراء العرب إلى أسرة دار النهضة، تحكي لينة بحماسة عن مخططاتها المقبلة وأبرزها: "أفكر بتقديم تحية لأولئك الشعراء حول العالم، ممن يغردون خارج السرب. بذلك أعيد إلى الضوء تجارب مؤلمة يمكن أن نعتبر منها، من مثل تجربة الشاعرة ناديا أوجمان، التي طرق زوجها رأسها بالفأس لأنها تكتب الشعر وغيرها كثر بينهم شاعران ألبانيان ذبحا لأن ثمة جهات ترفض أن تتحرر من بوتقة الأفكار الضيقة. لهؤلاء يمكن أن نوجه الأنظار في مسيرة البحث عن جدوى الشعر. وهنا لا يسعني سوى استعادة عبارة لشاعر أسباني قال ذات يوم: الشعر ليس سلاحاً لتغيير العالم، وإنما وسيلة تجعل من الشخص يعيش الحياة بطريقة أكثر قوة وعنفواناً. إنه يوقظ في المرء أشياء لا تستطيع أشياء أخرى أن توقظها فيه". وتضيف لينة: "تصلني عشرات المخطوطات الجميلة، لكن الإمكانات المتواضعة تحول دون نشرها كلها برغم أنها تستحق النشر. ذلك أن ميزانية الدار لا تسمح بإصدار أكثر من 16ديوانا في السنة على نفقتها الخاصة. ويبقى الرهان على استمرارية المشروع وتوافر سبل وموارد تعزِّز من توسُّعه". ولا تنسى لينة الإضاءة على تجربة مجلة "نقد"، التي أخذت الدار على عاتقها مسؤولية إصدارها دورياً. تشبه "نقد" فعل مجلة "شعر"، التي شكلت اللبنة الأولى في ولادة شعراء شباب حينها هم اليوم أبرز رواد المرحلة. يرأس المجلة شاعران شابان هما ماهر شرف الدين وزينب عسَّاف اللذان يصنفان "متمردين" كذلك، كل في بيئته. توضح لينة: "برغم حداثة تجربة الزوجين فإن كفاءتهما حصنتهما في وجه كل الطامعين بتسلم المشروع. ذلك أن من مهمات دور النشر، في سعيها الدائم لتبني قضية، أن تنصر الشباب دوماً، وتأخذ بيده باعتباره الأحق في أن يرسم غده"، وقد أشارت لنا لينة أنه صدر حتى الآن أربعة أعداد من مجلة نقد خصصت أعدادها كاملة لتجارب شعرية عربية: بول شاوول (العدد الأول)، وصلاح عبد الصبور (العدد الثاني)، ومحمود درويش (العدد الثالث)، ونازك الملائكة (العدد الرابع) ويعد عن أنسي الحاج العدد القادم. وتفيدنا لينة ضمن المشاريع التي تعد لها الدار، ثمة مشروع ترجمة على وشك أن يرى النور قريبا. يقضي المشروع بترجمة بعض الدواوين إلى اللغتين التركية والإيرانية بغية تفعيل التبادل الثقافي من خلال معارض الكتب التي تنظم في المنطقة. وهناك مشروع آخر يسمح بانتشار أوسع من خلال النشر المشترك بين دار النهضة العربية ودار نشر أميركية. هذا التعاون يأخذ الإبداع العربي إلى المزيد من الضوء، لكنه في المقابل باهظ الكلفة بحسب ما تشير لينا: صحيح أننا نسعى للأفضل، لكن كل خطوة تفاقم من الأعباء على الدار. الحقيقة أنني برغم النجاح الذي أحرزه المشروع أخجل من ذكر عدد الدواوين المباعة في السوق. يسألني الكاتب أو الشاعر عن أحوال السوق فأقول بأنها مستورة. أهرب بعيني كي لا يصاب المثقف بالخيبة وعسر الكتابة في حال عرف حقيقة الأرقام. تعترف لينة أن الشعر لا يطعم خبزاً، لكنه في أحيان كثيرة يثمر فرحاً ونشوة الإنسان العربي بحاجة لهما أكثر من المأكل والملبس. علاوة على كون الشعر "الخارطة الثقافية" الأصدق في علاقة الشاعر مع محيطه، وكذلك الناشر. على هذا الأساس تبني لينة مشروعاتها الآخذة في الانتشار، إنما مع توضيح منها أن الأولوية ستبقى للإصدارات الأكاديمية، حفاظاً على إرث الدار. تحكي بينما تقلِّب أوراقاً متراكمة تحمل توقيعها وإحدى الكلمتين: "ok" أو "cancel": كانت السياحة في الأماكن النائية شغفي إلى جانب الرسم بحكم دراستي ال"Advertising design" في الجامعة الأميركية اللبنانية. لكن تسلمي إدارة الدار حولني إلى "business woman" من الطراز المحارب. أحارب بالإرادة الصلبة لأن التفاصيل هي التي ترسم الإنسان. بمعنى أني في صولات العمل أضطر لأكون "شرسة" بينما أعبر البلدان والمراكز حيث للدار عقود عمل. أما في الليل، بعيداً عن الأرقام والحسابات، وال "أوردرات"، فإني أختلي بالشعر بين دفتي كتاب. أعود عندها طفلة تسرح في البراري، أنثى تقطف سنابل الحب كما تشتهي". وماذا بعد عن أحلام لينة؟ تُخبِر كمن يدوّر حلماً: "أحلم أن أنجح في ضم أسماء كبيرة إلى أسرة الدار. بين تلك الأسماء بول شاوول الذي يفتنني سعيه الدائم للتجدد والتجريب. أما على الصعيد الشخصي فحبذا لو يصمد مشروعي في احتضان الشعراء طويلاً. يبقى يزهر بينما نكون جميعاً غادرنا الحياة بأجسادنا فقط". ويبقى مثل هذا المشروع حرياً بالاهتمام كما وضح لنا من الخطط المأمولة فالأستاذة لينة طامحة إلى تواصل عربي من أجل إنجاح هذا المشروع واستمراره، ولا بد من ذلك.