ويتجلى ذلك في بروز انساق غير مألوفة من التفكير داخل النخب وأوساط الفاعلين على امتداد دول العالم الثالث، ترفض عزلتها التاريخية وتطالب بالتخلي عن المواقف الصادرة عن استبطانات اللاشعور المتحدرة من تماسها مع الغرب ؟ ظلت مواقف وتصورات الشعوب الفقيرة إزاء الغرب مرتهنة لأحكام تجربتها خلال المرحلة الاستعمارية، واستمرت حتى سقوط النماذج البديلة التي كانت الاشتراكية آخر مظاهرها، وهيمنة الاقتصاد الليبرالي التراكمي القائم على دعائم الضمان الاجتماعي والديموقراطية وتوفير فرص العمل بأجور مجزية ومواكبة لتصاعد عملية الاستهلاك وتحفيز الطلب على السلع في سياق استمرارية إنتاجية واستهلاكية متنامية ومحكومة بانضباطية نقدية، فلقد استدعت المرحلة الاستعمارية نضالاً مريراً وتعبئة للمشاعر المعادية والرافضة لمفاهيم الحضارة التي احتكرها الغرب لنفسه، ولقد بقيت هذه الشعوب وحتى بعد أن حصلت على استقلالها عبر التضحية والكفاح تؤسس تأويل العالم الجديد وتعقّل مستجداته عبر مرجعيات مستهلمة من تلك المرحلة المظلمة من تاريخها، في وقت كانت مثل هذه المرجعيات تتلقى جرعات (جزلة) من التنشيط على أيدي الغرب، في أشكال التمييز والتفاوت المعياري حول صيغ العلاقات بين دول العالم الصناعي والدول الفقيرة، ولقد سادت حالة الاستقطاب المتفجر هذه العلاقات حتى نهاية التسعينيات من القرن المنصرم دون أن تكتشف الشعوب الفقيرة الدينامية المتحركة للعالم الذي تعيشه، وبقيت مصممة على طبيعتين مختلفتين للعالم لن تلتقيا، ورغم أن هذه الشعوب كانت مؤهلة للصفح عن الكوارث التي نزلت بها بسبب أخطاء قياداتها والخلافات الدموية التي نشبت بينها، إلا أنها لم تتمكن من التخلص من وطأة المرارة وعمق الجرح الذي خلفه العهد الاستعماري. كان ثمة انسلاخ كامل عن الواقع استقر معه مبدأ التصالح مع المحيط الواقعي في مربع اللامفكر فيه، ولم تستطع أن تتخذ موقفاً من الحقيقة التي تعني ذلك الوجود المتجسد في معزل عنها وباستقلال عن تنمياتها، ولقد كانت الحضارات السابقة قد اكتشفت بأن المحيط الإنساني والمادي قابل للاستيعاب والتمثل ومن ثمَّ السيطرة النسبية وصولاً إلى الاستثمار، ولم يكن ذلك اكتشافاً حصرياً للغرب، ولكن البحث العلمي عن قوانين العلاقة بين أشياء العالم وظواهره ألهب العقل الغربي مكتفياً بمعرفتها وضبطها عن البحث القديم الممض عن ماهيات الأشياء نفسها، وكان الغرب قد أخذ يراكم الفوائد ويتفوق لا يزال مثقلاً بإرث صراعاته القديمة والحديثة مع الشرق (الآخر الإسلامي على وجه الخصوص) فانطلق يوظف رواسبه النفسية غطاءً لتبرير الغزو الاستعماري وإرساء تركيبة العالم المعاصر التي نشهد اهتزازاتها في يومنا هذا. ويتجلى ذلك في بروز انساق غير مألوفة من التفكير داخل النخب وأوساط الفاعلين على امتداد دول العالم الثالث، ترفض عزلتها التاريخية وتطالب بالتخلي عن المواقف الصادرة عن استبطانات اللاشعور المتحدرة من تماسها مع الغرب. فمن الواضح أن شعوب العالم الثالث أخذت تتخلى عن رؤيتها السكونية وتدرك الطبيعة المتحركة للعالم، وأن ما كان يبدو عالماً مرتكزاً على قسمة أزلية، أخذ يدنو من بعضه البعض لإعادة تركيب نفسه ويتحول في هدوء نسبي متجهاً نحو حضارة الوحدة البشرية الحاضنة للخصوصيات الثقافية المتعددة والهويات المتمايزة، ولكن المتفاعلة داخل المفهوم الحضاري الموحد، ومن الطبيعي أن لا يمضي هذا التحول إلى غايته المنشودة بيسر وسلاسة لأنه يعني في النهاية إعادة توزيع ثروات العالم وتوطيد الثقة لتبادل المنافع بين شعوبه، مما يستدعي تنازل الدول الغنية عن الاستئثار بالجانب الأكبر من موارد الأرض، كما ظهر ذلك واضحاً في مؤتمر البيئة الذي انعقد مؤخراً في جزيرة بالي الأندونيسية فقد كشف هذا المؤتمر عن تبلور إدراك متنام لدى الدول الفقيرة لدورها في العالم بعد أن تحولت المسألة المناخية وما يرتبط بها من تداعيات تتناول مسائل الطاقة والتنمية وحقوق الشعوب الطبيعية في تحقيق الرخاء والتقدم، إلى أزمة تتخطى الواقع العالمي المنقسم بين أغنياء وفقراء، حيث وضعت للمرة الأولى على قدم المساواة سكان الأرض دون استثناء، وجعلت من الكوكب الأرضي مكاناً مسطحاً لا تفصله تضاريس من أي نوع، يواجه سكانه سواسية أسئلة حادة تتخطى حدود تجاربهم السابقة وتطرح أمامهم مصيراً مشتركاً، وفيما كانت الدول الكبرى قد تأبطت ملفات مثقلة بالمطالب الباهظة لإلقائها على كاهل الدول الفقيرة والناهضة تحت عناوين الرأفة بالأرض وسلامة الحياة، كانت الدول الفقيرة قد أدركت أن حقيقة الهويات القومية قابلة للصيانة كخصوصية ثقافية وتحتمل الإندراج (لا الذوبان) داخل عملية حضارية موحدة ترعى النشاط الإنساني وتؤسس لازدهار الحياة، عبر تفاعل متكافئ للجهد الإنساني واقتسام عادل لموارد الأرض، وتجلى بوضوح فهم هذه الدول لأسس وثوابت التوسع الكوني المنطلق بقوة ليشمل العالم متجسداً في حرية انتقال السلع وعناصر الإنتاج، وخلق نظام كوني مفتوح ولكن في إطار علاقات التباسية بين طرفي العالم يحرص الجانب الغني على تثبيتها قانوناً أزلياً في مواجهة ذلك، فعبّرت الشعوب الفقيرة بقوة عن إدراكها بأن القسمة التي يراد تكريسها تجعل من الاقتصاد المعاصر بقدر ما يقتحم عزلتها وغربتها التاريخية مدمراً لأنظمتها التقليدية بمستوياتها المختلفة يخلفها مجردة من أساليب عيشها وأنساقها الاجتماعية معمماً تبعيتها الاقتصادية المرتكزة على شراهة استهلاكية تتخم خلالها أقلية نادرة من النخب الحاكمة وهوامشها وتوزع البؤس على الأغلبية الغالبة بينها، ومثل هذه العلاقة لا تجسد في المنظور المتبلور بسرعة بين مساحات شاسعة من سكان العالم الثالث سوى استيفاء لشروط الإبقاء على العالم مقسوماً بين مراكز وأطراف، وتكريس أبدية التخلف والتقدم. وكانت لحظة التحول الحاسمة قد سجلت ميلادها مع علو نبرة الوعي (الواقعي) لتحليل العالم المعاصر، ولكن بعد أن اضاعت الشعوب الفقيرة عقوداً ثمينة أعقبت استقلالها الوطني قبل أن تدرك المخاطر المنطوية على تشكيل مواقفها اتجاه الحضارة المعاصرة من خلال أحاسيسها الناضحة بإرث المرحلة الاستعمارية المرير، فانزلقت نحو الانكفاء عن حركة التاريخ وخرجت منه متأسية بإدانة (الغرب) وخصومته، دون أن تتبين الحدود الفاصلة بين النهج الحضاري المشترك للإنسانية التي تجمعت روافده في النهر الغربي في لحظة تاريخية بعينها وبين توظيفه في المشروع الاستعماري البشع لنهب الشعوب وسجن تاريخها بين جدران التخلف، كما أنها لم تتبين الحدود الوظيفية لكل من الهوية والثقافة وبين الإنجازات الهائلة التي تحققت عبر النهج البحثي والإنتاجي وعقلانية التصرف في إدارة الثروة والسياسة والمجتمع، ويمكن إدانة العديد من جوانب الحضارة الحديثة وشجب الكثير من ممارساتها، دون أن يكون ممكناً نكران إمساكها بمصير العالم ومسار التطور، فإذا كانت الاعوجاجات والمثالب التي تدفع العالم المعاصر إلى براثن مأزق كوني شامل، قد تفاقمت على خلفية الأنانية وإطلاق غرائز الجشع والتسلط، فإن انغلاق شعوب العالم الثالث وامتناعها عن التواصل مع هذه الحضارة وهو انغلاق يتلقى دعماً تحريضياً من قبل القوى المستأثرة بخيرات الأرض، يفضي إلى تسريع انزلاق الجانب الفاعل من الإنسانية المعاصرة على منحدره الخطر وإغراق الإنسانية بكاملها في لجة أزمة المصير، دون أن يكون لقسمها المتلقي الآخر المقدرة على البقاء بعيداً عن الشظايا القاتلة التي تتطاير من المركز. ولكن وبالرغم من المظاهر الديناميكية المتزايدة ومؤثراتها بالغة الوضوح على أكبر كتلتين بشريتين، فإن أفق التشاؤم لا زال يحيط بسماء المستقبل لأكثر من ثلث البشر، مع بقاء الوعي المستجد لشعوب الهامش معلقاً فوق الحصون المنيعة حيث الثروة والمال والمعرفة تحت حراسة لا تنام، تتناوب عليها أشكال الأنانيات والمركزيات المتعجرفة، فيرتد هذا الوعي إحساساً باليأس ورفضاً للعالم، ويصبح العنف المنظم (في الداخل أو عبر الحدود) منفذاً خلاصياً متوهماً من جانب وفضاءً لتبرير التسلط وتجاوز الحقوق المبدئية للإنسان والشعوب والعودة إلى البربرية الأولى من جانب آخر، لدرجة تبدو معها نماذج القيم الجماعية الخالصة لكل الأزمان والأمكنة وقد اندثرت في بؤر لإبادة التراث الأخلاقي للحضارة ومعاقبة الإنسان، عبر ازدواجية تميزية سافرة تقطّع أواصر القرابة وتهوي بالمعاول على حقيقة الأصل الواحد، فتهب تراسانات التأويل لتزويد الخطابات السياسية السائدة لدى المقتدرين بمصطلحات لاجتياح الحدود التي تبلور داخلها إرث الإنسانية حول الحق والعدالة، ليدخل التاريخ أدغال الالتباسات التي لا مخرج منها إلا إلى أتون الصراعية المنفحتة على الكوارث.