الكفر الصريح أفضل من الإيمان الكاذب وكلاهما شر، ولو لم يكن النفاق أكبر إثما من الكفر الصريح ما جعل الله المنافقين في أكثر مراتب النار عذاباً، وهذا من البداهة بمكان ليفهم من سياق الآيات، لم يعرف العرب النفاق في مكة أو بتعبير أدق لم يمارسوه وهذا عائد لسببين الأول: أن قريشاً كانت خالصة في عروبتها وأفصح العرب لساناً وأحسنهم مجازاً وأرفعهم نسباً، والعنصر العربي الخالص عرف رزايا كثيرة ولكنه لم يعرف الجبن، وقد ظهر النفاق في المدينة لتعدد الأعراق والأديان فيها واختلافات الولاءات السياسية، فقد كانت المدينة مجتمعاً مفتوحاً للتجاذبات وللصراعات على أشدها لإثبات الذات وتأكيدها. فكان الأوس والخزرج واليهود، مما حدا بتلك القوى أن تمارس السياسة ردحاً من الزمن، وهذا الأمر لم تعرفه قريش فقد نعمت باستقرار سياسيّ وتوزيع مناصب القبيلة على مستحقيها فانصهرت القبيلة في بوتقة واحدة ولم تتنافر. والسبب الثاني: هو أن الإسلام في مكة كان ضعيفاً ومضطهداً وكانت السلطة السياسية والغلبة المادية لدين قريش، بينما في المدينة انقلبت الأدوار فقد صار الإسلام هو السلطة والقوى التي لم تنخرط فيه هذه الأقلية. لهذا كانت أمام أحد أمرين: إما أن تظهر كفرها وتسبح ضد تيار المجتمع، وإما أن تمثل الإيمان تمثيلاً وهي في الحقيقة تبطن الكفر، وهذا الذي كان أو أن تقف ضد السلطة فتخسر ما تحاول بنفاقها أن تحافظ عليه، فالإنسان لا يظهر عكس ما يبطن إلا في حالة الخوف، وإلا فالأصل أن تعبر المواقف عن المعتقدات. (رسائل من القرآن)