داهمني مؤخراً عارض صحي، دخلت على إثره مدينة الملك عبد العزيز الطبية للحرس الوطني بالرياض.. ولزمت السرير الأبيض. كانت أوجاع المرض ثقيلة، وليلُه طويلاً، تتزاحم فيه صور متشابكة من القلق، والترقُّب والانتظار الممزوج بشحنات من الأمل والرجاء. عبر شُرفة الغرفة، كنت أسرق النظرات لأرقب أسوار المستشفى وهي تحتضن بصمتٍ كوامن آلامي. كنت أتفرّسُ الوجوه من حولي، لم أكن وحيداً، عشرات الأسرّة في الغرف المجاورة تنطلق منها أصوات متهدجة، ولكنها متشبثة بحبال الصبر والاحتساب! وسط هذه الصورة المخيمة على مشهد القسم الذي كنت منوماً فيه، ومن بين حروف الآلام المنثورة على أسرَّة المرضى، تلتئم الكلمات لتصفَ ما تفيضُ به الصدور. كنت أستمعُ لجلَبَةِ الكادر الطبي والتمريضي الذي كان يؤنسُ وحدتَنا، ويوزع ابتساماتِه وأدعيتَه على المرضى منذ ساعات الصباح الأولى، ليبثَّ في نفوسنا مزيجاً من الثقة والأمل، ويحفّزنا على الانتصار على ضعفنا، وعدم القنوط من رحمة الله. كنت أنظر بإمعان الى دواخل والدي ووالدتي، وهما يخفيان آلامهما، ويتدفق من عيونهما سيلٌ من الحُبٌّ، يغطي مساحات النفس كلها، ويغرسان في قلبي بذور الأمل والصبر، فكنت مع جلساتهما متيقناً أن القادم بعون الله سيكون أجملَ بفضل الله ولطفه وكرمه، ثم بدعائهما المتواصل آناءَ الليل وأطرافَ النهار. رحتُ أسترجعُ قصص الأنبياء الصابرين، أولي العزم، ممن صبروا على ما ابتلوا به ليقيني أن أكثر الناس بلاءً هم أكثرهم فضلاً ونُبلاً. استحضرتُ قصص الرسل لأتأسّى في البلاء بهم، وأتسلَّى بالمحن بما جرى عليهم.. فتذكرت نبي الله يعقوب عليه السلام الذي صبر على فقد ابنه يوسفَ عليه السلام، وردّدتُ قولَ الله تعالى: "فصبرٌ جميل"، وتذكرّتُ نبي الله أيوب الذي صبر على فقدِ صحته وماله وأولاده، وقرأتُ قوله تعالى: "إنّا وجدناه صابراً، نِعَم العبدُ إنه أوَّاب". ثم استحضرتُ قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك".. وقوله: "كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس" - أي الضعف والقوة-. في رحلتي على السرير الأبيض قصصٌ ومواقفُ وتجاربُ كثيرة، أنقلُ جزءاً منها الى القراء، لعل أبرزها هذه النعم التي نتفيَّأ في ظلالها، فنحمد الله أننا في هذا البلد المعطاء الذي تمتدُّ أياديه بالخير لأبنائه وللعالم كله. مزيجٌ من الطمأنينة كان يسري في عروقي وأنا أرى وألمسُ هذه الرعاية الطبية المُثلى التي وجدتُها في موطني، دون مقابلٍ مادي، كما هو الحال في الكثير من الدول، وسط بيئة عمل تسير في منظومة الجودة والتميز، والحرص على سلامة الصحة العامة، ولتؤكد أن المواطن يسكنُ قلبَ قيادته التي تحتضنه بحب، وترعاه بحنو. ولعل مما خفّف من معاناتي ومعاناة الكثيرين من المرضى هذا الكادرُ الطبيُّ الذي يُشرفُ على برنامج علاجنا، والذي كان يشرقُ بابتساماته على مساحات نفسي كلما خالجتْها الأحزان. أقول لهم: أهديكم نبضي حروفاً، وحبي كلماتٍ أرسمُ بها لوحاتِ الوفاء والتقدير لعطائكم النبيل الذي تجسّدون من خلاله أصالة إنسان هذا الوطن، وسموَّ القيم التي نشأ عليها، والتي صرنا معها كالبُنيان المرصوص، والجسد الواحد. كما أشكر من الأعماق وزارة الصحة والشؤون الصحية بوزارة الحرس الوطني على منظومة الخدمات المتميزة التي تقدمها للمرضى ومرافقيهم، وعلى البرامج الإثرائية فيها التي تشكل رافداً لمنظومة النظام الصحي.. وأقول لهم جميعاً: كلماتي لكم ليست فقط من وحي أفكاري، بل هي أيضاً مشاعر منحتْها حروفي حياةً، فقدّمتُها لكم على بساط المحبة والوفاء.. فشكراً من الأعماق. وأسألُ اللهَ بأسمائه الحسنى وبصفاته العُلا وبرحمته التي وسعت كل شيء أن يمنّ علينا بالشفاء العاجل وأن يلبسنا ثوب الصحة والعافية، وأن يكتب لنا جميعاً أجرَ الصابرين.