رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم كان نموذجاً حيَّاً للتسامح والعفو والمغفرة، ففي يوم فتح مكة قال عليه الصلاة والسلام لقوم مكة الذين آذوه وحاربوه وأخرجوه من داره (اذهبوا فأنتم الطلقاء). كما صنّف القرآن الكريم المتسامحين بأنهم من المحسنين، يقول تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}. سورة العمران: (134). وربنا عزَّ وجلَّ قد منح التسامح والعفو مرتبة كبيرة في كتابه الكريم فامتدح المؤمنين المتسامحين الذين يعفون عن الناس وينسون إساءتهم فيقول تعالى {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ}. سورة الشورى:(37). ولذلك حث ديننا الإسلامي الحنيف على خلق المسامحة، ورتب عليها الثواب الجزيل وحُسن المآب كيف لا والتسامح له أثر عظيم على الفرد من سلامة الصدر والمحبة والإخاء، فضلاً عن فوائد صحية ونفسية واجتماعية وعاطفية، ويرسم أعلى محيَّاه البشاشة والابتسامة، ويكفي بها حصول محبة الله عزَّوجلَّ يقول تعالى:{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنيَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. سورة النور:(22). وفي حياة والدي الزاهد.. العابد -رحمه الله- مواقف خالدة، وشواهد حيَّة، ودلالات عقلية تكشف وبجلاء عن إيمانه التام بالمسامحة، فقد عاش حياته متسامحاً ومتصالحاً مع الآخرين، ومن قيم التسامح في منهج حياته كان إذا تأخر المستأجر عن دفع قيمة الإيجار يقول لصاحب العقار امنحه بعض الوقت فربما يكون يمر بظروف مادية ولا نعلم حاله وأوضاعه..! حتى إن صاحب العقار المسؤول عن تأجير بيوته كان يقول له في حال تأخر المستأجر عن دفع قيمة الإيجار لمدة تصل سنة، أو سنتين (نشكيه)..! ويقول:لا، إلا عنده أبناء ولن نتسبب في سجنه، أو إبعاده عن أسرته، رغم أن البعض من المستأجرين لبيوته كانوا يماطلون في دفع الإيجار..!! لكنه كان متسامحاً لأنه يرى في العفو والتسامح خلق الأنبياء وقيم النبلاء. فمن القصص المؤثرة التي تنم عن قيم التسامح عند الوالد -رحمه الله تعالى- كان رجلاً فقيراً مع أسرته يسكن في بيت من البيوت المستأجرة لهُ قبل سنوات مضت تأخر في سداد قيمة الإيجار أكثر من سنتين..! فذهب إليه صاحب مكتب العقار وقابله وحين دخل البيت وجد وضعهم المعيشي بائس، لا يملكون من حطام الدنيا شئياً. فشكا -المستأجر- حاله لصاحب المكتب وأحواله المتردية، فلا ضمان يصرف له ولا مال متوفراً عنده يسد به رمقه ورمق أسرته إلا من بعض المحسنين من سكان الحي الذين يساعدونه..! ونقل -للوالد- حال المستأجر المعسر، وقال أتركه حتى يفرِّج الله كربته ويرزقه، وبعد عدة أشهر (توفي) المستأجر وترك أرملة وأيتاماً، وعلم الوالد بذلك وتأثر بما حدث وبعد سنة أو تزيد توفيت الأم وخرج الأبناء عند أقارب لهم بعد وفاة والديهم وتركوا البيت المستأجر الذي مضى عليه ثلاث سنوات أو تزيد لم يسدد إيجاره. وهذا الموقف الإنساني النبيل يؤكد قيم التسامح التي كانت جزءًاً من منهج الوالد وأحد المبادئ الفضيلة التي حولها الوالد -رحمه الله تعالى- في حياته اليومية إلى واقع ومنهج راسخ أصيل كان يتعامل بها، لأنه كان يرجو ما عند الله عزوجل من خير وأجر وثواب. هكذا كان -رحمه الله- يقدِّم التسامح والعفو لأن فيه الطمأنينة والسكينة وفيه العزة وشرف النفس.. فحري بنا أن نتخلَّق بهذا الخلق السامي الرفيع وهذا المبدأ النبيل في حياتنا اليومية. رحم الله أبي، كان قلبُه متسامحاً ومتصالحاً مع الجميع لا يعرف الكراهية والبغضاء والحسد والكلام في أعراض الناس والنميمة، بل كان رجلاً زاهداً جُبل على صفاء القلب، وسلامة الصدر، وعفة اللسان وحُب الصفح وقيم التسامح. خالد الدوس