يعيش العالم اليوم متغيرات تراكمية عديدة تتطلب من الدول إعادة بوصلة ومراجعة مسارها، إذ بات من المستحيل أن تحقق دولة ما متطلباتها بجهودها المنفردة دون أن تنسق وتتماهى مع بقية الدول لتبادل وتقاسم المنافع المشتركة. كما أن التطورات التي تجري في العالم المتقدم، السياسية منها والاقتصادية والنفطية والمناخية، من شأنها أن تشكل محفزاً للدول للقيام بإنشاء تكتلات اقتصادية وجيوستراتيجية تخدم مصالحها وتمكنها من مواجهة عالم اليوم الذي هو عالم التكتلات الاقتصادية الكبرى، كعلاج للمشكلات الاقتصادية الحرجة على الصعيد الدولي. حيث تهدف هذه التكتلات إلى تحقيق غايات اقتصادية وسياسية واجتماعية بالإضافة إلى تسهيل عملية التنمية الاقتصادية، والمساهمة في عملية التكامل الاقتصادي وخلق فرص عمل جديدة، إضافة إلى أن هنالك متطلبات أساسية لإنشاء مثل هذه التكتلات الاقتصادية، كعقد الاتفاقات الدولية من أجل تحديد الأنظمة القانونية ورعاية مصالح الدول الأعضاء ووضع قواعد محددة للرقابة. وعندما نتحدث عن مجموعة دول العشرين، فنحن نتكلم عن أكبر 20 اقتصاداً في العالم، ومجموعة دولية تتكون من الاقتصادات الرئيسية الراسخة والناشئة في العالم، تعمل كمنتدى يجتمع فيه رؤساء الدول والحكومات من جميع أنحاء العالم لمعالجة القضايا العالمية، التي تتعلق بشكل أساسي بالاقتصاد، مثل الاستقرار المالي والتجارة والسياسات والاستدامة. في كل عام، يتم التناوب على رئاسة مجموعة العشرين من دولة إلى أخرى. وتستضيف إندونيسيا الأسبوع المقبل في بالي القمة التي تحمل ملفات اقتصادية مهمة تطفو على السطح حالياً، سواء فيما يتعلق بالتغير المناخي وأسعار الطاقة أو أزمات الطاقة والغذاء والحرب في أوكرانيا وصراع القوى الدولية، ما يزيد من أهمية قمة مجموعة العشرين المقبلة في إندونيسيا. ومن المقرر أن يحضر عدد من قادة العالم القمة التي تبدأ في 15 نوفمبر الجاري، بمن فيهم الرئيس الأميركي جو بايدن، والرئيس الصيني شي جين بينغ. وتلقي الخلافات السياسية بنفسها على قمة بالي تحديداً بين الولاياتالمتحدة والدول الغربية المؤيدة لسياسات واشنطن، وما بين روسيا والعديد من الدول الداعمة لها، بالإضافة إلى التنافس الأمريكي - الصيني، المستعر على القمة المرتقبة والتي تعقد في مدينة بالي يومَي 15-16 نوفمبر الجاري. وكان العالم يترقب مشاركة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أعمال القمة، إلا أن اعتذار الرئيس بوتين في قمة مجموعة العشرين المقبلة كان بمثابة مفاجأة للمراقبين، في ظل التجاذب الشديد بين موسكووواشنطن، رغم أن الرئيس الإندونيسي أكد أنه ينبغي أن تناقش قمة مجموعة العشرين، الأوضاع الاقتصادية بدلاً من الملفات السياسية، وهو وجهة النظر التي تؤيدها معظم الدول النامية، ملمحاً على ضرورة الابتعاد عن الحرب في أوكرانيا، والتركيز على قضايا أخرى، مثل تغير المناخ والجوع وأزمة الطاقة. ويرى بعض المراقبين أن مجموعة العشرين هي منصة استشارية لمناقشة القضايا الاقتصادية العالمية، وعلى الدول الغربية عدم تضمين السياسة في القمة حيث سيحاول الغرب بحسب المراقبون إدانة روسيا بسبب حربها ضد أوكرانيا، إلا أن الدول الأخرى الداعمة لروسيا مثل الصين والهند، لن تكون مستعدة للمشاركة في ذلك، فتلك الدول لا تهتم كثيراً بملف الحرب في أوكرانيا، ويركزون اهتمامهم على ملفات اقتصادية أخرى ولهم في ذات الوقت مصالح استراتيجية مع موسكو. ومن من المحتمل أن يتم عقد لقاء على هامش أعمال القمة، ما بين الرئيس الأمريكي جو بايدن، والزعيم الصيني شي جين بينغ، ولو تم ذلك سيكون له أهمية كبيرة، فالولاياتالمتحدةوالصين تظهران علامات على استعدادهما لعقد اتفاقات بينهما، لكن من غير الواضح ما يمكن أن يتفق عليه الطرفان، لأن واشنطن تواصل انتقاد الصين بكل طريقة ممكنة بينما نجد أن الصين أمة فخورة بنفسها وإذا حاول أحد تشويه صورتها ثم سعى إلى عقد اتفاق معها، فسيكون من الصعب القيام بذلك، إلا أن نتائج المؤتمر الأخير للحزب الشيوعي الصيني، تظهر أن بكين عازمة على المواجهة في هذه المرحلة». فالصينيون على دراية بالوثائق الاستراتيجية الأمريكية التي تصف الصين بأنها تهديد أكبر للولايات المتحدة من روسيا، وأن روسيا تشكل خطراً أكبر في اللحظة الراهنة، ولكن من الناحية الاستراتيجية، فإن الصين تشكل تحدياً كبيراً للولايات المتحدة كدولة قوية، يمكنها بالفعل أن تدعي قيادة عالمية، كما تنص وثائق الكونغرس الأمريكي بوضوح، أن الصين تسعى لأن تصبح زعيمة العالم من حيث القوة الشاملة والاقتصاد، بحلول منتصف القرن». وتعد مجموعة العشرين هي المنتدى الرئيسي للتعاون الاقتصادي الدولي، وتضم قادة من جميع القارات ويمثلون دولاً متقدمة ونامية، وتمثل الدول الأعضاء في مجموعة العشرين، مجتمعة، حوالي 80 % من الناتج الاقتصادي العالمي، وثلثي سكان العالم، وثلاثة أرباع حجم التجارة العالمية، ويجتمع ممثلو دول المجموعة لمناقشة القضايا المالية والقضايا الاجتماعية والاقتصادية. ومن المقرر أن تشهد القمة مجموعة من الاجتماعات والمباحثات والعمل المكثف، برئاسة إندونيسيا، والتي تأمل في أن تنجح بقيادة دول المجموعة إلى تحقيق اتفاقيات تكلل قيادتها بالنجاح. وتضم مجموعة العشرين كلاً من المملكة العربية السعودية، والأرجنتين، وأستراليا، والبرازيل، وكندا، والصين، وفرنسا، وألمانيا، والهند، وإندونيسيا، وإيطاليا، واليابان، والمكسيك، وجمهورية كوريا، وروسيا، وجنوب أفريقيا، وتركيا، والمملكة المتحدة، والولاياتالمتحدةالأمريكية، والاتحاد الأوروبي. وستتولى إندونيسيا، طوال سنة 2022، رئاسة مجموعة العشرين واعتمدت الرئاسة الإندونيسية لمجموعة العشرين خطة طموحة بعنوان "الانتعاش معاً انتعاشٌ أقوى" تركّز على الصحة العالمية، والتحوّل الرقميّ، والانتقال الطاقيّ، وترمي إلى تشجيع انتعاش متوازن للاقتصاد العالميّ، واستقرار النظام النقديّ والماليّ العالميّ وقدرته على الصمود، والنموّ الاقتصاديّ المستدام والشامل. ضغوط وقاومت إندونيسيا ضغوط الدول الغربية وأوكرانيا لسحب دعوتها لبوتين لحضور القمة، بسبب الحرب في أوكرانيا، قائلة إنها لا تملك سلطة القيام بذلك دون إجماع بين الأعضاء. وقال الرئيس الإندونيسي جوكو ويدودو - في مقابلة مع صحيفة "فايننشال تايمز" - إن روسيا مرحب بها في القمة، التي يخشى أن يطغى عليها تصاعد "مقلق جداً" في التوترات الدولية. ونقلت الصحيفة عنه قوله "لا يُقصد من مجموعة العشرين أن تكون منتدى سياسياً.. من المفترض أن تدور حول الاقتصاد والتنمية". وكانت الولاياتالمتحدة مدعومة من قسم من حلفائها الغربيين، دعت إلى إقصاء روسيا من المنتديات الدولية. غير أن إندونيسيا الحريصة على حيادها أكدت دعوتها للرئيس بوتين. وتم الإعلان عن تعيين إندونيسيا في رئاسة مجموعة العشرين 2022 قبل عامين، عندما انعقدت قمة مجموعة العشرين في الرياض، في الفترة من 21 إلى 22 نوفمبر 2020. وكان موكب التسليم نفسه قد أقيم قبل عام واحد في قمة مجموعة العشرين التي عقدت في روما، في الفترة من 30 إلى 31 أكتوبر 2021، وهذه هي المرة الأولى التي تُمنح فيها إندونيسيا الثقة لاستضافة قمة مجموعة العشرين منذ تشكيلها في عام 1999. وقال مسؤول إندونيسي رفيع ل"الرياض": إن هذه لحظة تاريخية لإندونيسيا لكي تقود أكبر اقتصاديات العالم، بصفتها رئيسية مجموعة العشرين لهذا العام، كونها فرصة مثالية لتشجيع العالم على الوفاء بالسياسات التي يمكن أن تؤدي إلى الانتعاش الاقتصادي في العالم، بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن توفر قمة مجموعة العشرين في إندونيسيا مزايا اقتصادية واجتماعية وسياسية كبيرة للبلاد. وهذا ما أكده وزير السياحة والاقتصاد الإبداعي في إندونيسيا، ساندياجا أونو أيضاً مؤكداً أن هذا الحدث العالمي يمكن أن يكون بمثابة زخم لإحياء قطاعي السياحة والاقتصاد الإبداعي في البلاد. ومن ضمن الموضوعات التي ستكون محور تركيز قمة مجموعة العشرين هو اجتماعات المسار المالي واجتماعات شيربا والتي سيتم فيها طرح العديد من القضايا المهمة، بما في ذلك الزراعة، ومكافحة الفساد، والاقتصاد الرقمي، والطاقة المستدامة، والاستثمار، والتوظيف، والصحة، والبيئة، والتنمية، وكذلك التجارة. وفي الوقت نفسه، في اجتماع المسار المالي، سوف تتمحور عدد من القضايا التي سيتم طرحها حول موضوع السياسة المالية والضريبية والنقد. وهناك ستة جداول أعمال ذات أولوية ستتم مناقشتها في اجتماع المسار المالي، وهي استراتيجية الانتعاش الاقتصادي، وإيجاد طرق للتغلب على الآثار السلبية للأزمة الاقتصادية، وأنظمة الدفع الرقمية، والتمويل المستدام، والشمول المالي، وكذلك الضرائب الدولية. وستتطرق القمة إلى مناقشة أزمتي الغذاء والطاقة العالميتين، وإبرام اتفاقيات مهمّة بشأن قضايا تتراوح بين إنشاء صندوق الوسيط المالي للوقاية من الأوبئة والتأهب، والاستجابة لإدارة الأوبئة في المستقبل بشكل أفضل. وكون العالم يشهد توجهاً متزايداً نحو إقامة التكتلات الاقتصادية، فإنه يؤكد أن الظاهرة علاج للمشكلات الاقتصادية الحرجة على الصعيد الدولي، حيث تهدف هذه التكتلات إلى تحقيق غايات اقتصادية وسياسية واجتماعية بالإضافة إلى تسهيل عملية التنمية الاقتصادية، والمساهمة في عملية التكامل الاقتصادي وخلق فرص عمل جديدة. فمن أشهر التكتلات الاقتصادية الاتحاد الأوروبي، التكتل الآسيوي. ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية دأبت الدول الكبرى على تسيير العالم وفق رغبتها التي تؤدي حتماً إلى تحقيق مصالحها سواء بالسياسة أو القوة، وكثيراً ما اتخذت هذه الدول من مجلس الأمن أداة لتحقيق أهدافها التي تتعارض غالباً مع الأهداف التي أسس المجلس من أجلها. وللحد من سطوة هذه الدول، جنحت كثير من البلدان لتأسيس تكتلات إقليمية وعالمية على غرار مجلس الأمن؛ للحد من عجز الأخير أو للتصدي لسطوة الدول الكبرى التي تتحرك باتجاه استنزاف موارد الدول بشكل أو بآخر. السياسة في قمة العشرين بإندونيسيا ستكون حاضرة فضلاً عن التعاون جيو-اقتصادي.. والمنافسة الجيو-استراتيجية.. ويبقى السؤال مفتوحاً لماذا اعتذر قيصر الكرملين..؟