في عيادتي يمر عليَّ مرضى مصابون بسرطان المستقيم تحديداً، وليس القولون، يبحثون عن علاج آخر غير الجراحة، وحُق لهم ذلك، ويحاولون ألا يقعوا تحت مشرط الجراح، ولا تثريب عليهم إن خافوا من ذلك. ومنهم من لا يقتنع ولا يصدق أصلاً أنه مصاب بالسرطان، ولا لوم عليه في البداية، وذلك لهول الصدمة، وعظم المصيبة التي أصابته. وينسى بل يتناسى كثير منا الحديث المذكور في مسند الإمام أحمد: من حديث زياد بن عِلاقة عن أُسامةَ ابن شَريكٍ، أنه قال: «كنتُ عندَ النبي صلى الله عليه، وجاءت الأعرابُ، فقالوا: يا رسول الله؛ أَنَتَدَاوَى؟ فقال: «نَعَمْ يا عبادَ اللهِ تَدَاوَوْا، فإنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ لم يضَعْ داءً إلا وَضَعَ لَهُ شِفاءً غيرَ داءٍ واحدٍ»، قالوا: ما هو؟ قال: «الهَرَمُ». وفي المسند: من حديث ابن مسعود يرفعه: «إنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ لم يُنْزِلْ داءً إلا أنزَلَ لَهُ شِفاءً، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ». بل ينسى أن المرض من أقدار الله، والعلاج كذلك من أقدار الله، ففي المسند والسنن: عن أبي خِزَامةَ، قال: قلتُ: يا رسول اللهِ؛ أرأيْتَ رُقىً نَسْتَرْقِيهَا، ودواءً نتداوى به، وتُقَاةً نَتَّقِيهَا، هل تَرُدُّ من قَدَرِ اللهِ شيئا؟ فقال: «هي من قَدَرِ الله». قد تتساءل أخي القارئ، ولكن لماذا سرطان المستقيم تحديداً؟، أليس القولون والمستقيم جزءا واحدا وهما عضوان متصلان يعملان معا ويسميان الأمعاء الغليظة؟ وفي نهاية الأمر، كلاهما معرض للسرطان، وكلاهما إذا ما أصيبا به أدى هذا المرض إلى انسدادهما، ومنها يصاب المريض بالألم وانتفاخ البطن والإمساك ونزول الدم مع البراز أجلكم الله؟!! والإجابة أن كل هذا صحيح، ولكن الفروق بين سرطان القولون وسرطان المستقيم هو موقع العضو المصاب بهذا الداء. فالمُستَقيمُ هو الجزءُ الأسفل من الأمعاء الغليظة، وهو موجود في جميع الثدييات، وطول المستقيم في الإنسان نحو 12 سم، ووظيفته الاحتفاظ بالفضلات حتى تخرج من الجسم عن طريق فتحة الشرج، التي توصله بالوسط الخارجي. والحقيقة أن الصعوبة فيه تكمن في موقعه الذي يوجد معظمه داخل تجويف الحوض، الذي يكون ضيقاً عند الرجال، ما يصعب عملية تشريحه واستئصاله جراحياً، كما أنه محاط بعظم الحوض مزدحماً مع المثانة والأوعية الدموية والمسارات اللمفاوية والأعصاب الحيوية والأعضاء التناسلية سواء الذكورية أو الأنثوية منها. ومن هنا عندما يصاب الإنسان بالسرطان في مستقيمه، فإن لم يُكتشف مبكراً فإن السرطان أكثر قدرة على إصابة الأعضاء المجاورة والانتشار السريع من خلال الأوعية الدموية على أعضاء قريبة كعظام الحوض والعمود الفقري أو أعضاء بعيدة كالكبد والرئتين والدماغ - وهو الشيء الذي نادراً ما يفعله سرطان القولون. يعد سرطان المستقيم السرطان الأول الأكثر شيوعاً بين السرطانات في الرجال والثالث في النساء في المملكة. ويظهر هذا المرض عادة في سن ال50 عاما، ونسبة المرضى الذين يعانونه ترتفع بصورة حادة بعد هذه السن؛ أي أن السن عامل الخطر الأكثر أهمية. وينشأ سرطان القولون والمستقيم من النتوءات (أو اللحميات) الحميدة، التي تتكون في بطانة المستقيم، وليست جميع اللحميات قابلة للتحول إلى سرطان. واللحميات التي تعرف باسم الأورام الغددية هي السلائف لسرطان الجهاز الهضمي عموماً والمستقيم. وليست كل عوامل الخطورة للأورام الغددية وما يحولها إلى سرطان معروفة، وأفضل عوامل الخطورة المعروفة زيادة الدهون في الطعام، قلة الألياف، تقدم العمر وتغيرات في الجينات. هنالك عوامل خطر أخرى ألا وهي: اتباع نظام غذائي غني بالبروتينات والدهون من مصادر حيوانية، استهلاك زائد للسعرات الحرارية، التدخين والاستهلاك الزائد للكحول. وفي المقابل، فإن تناول الفواكه والخضراوات الغنية بالألياف الغذائية والسليلوز (مركب كربوهيدراتي نباتي)، إضافة إلى ممارسة النشاط الرياضي -تؤدي إلى تقليل خطر الإصابة بشكل ملحوظ؛ أي أنه من خلال تغيير أسلوب الحياة يمكن منع ما لا يقل عن 50 في المئة من الحالات. ويتم تشخيص 1.2 مليون فرد بسرطان القولون والمستقيم سنوياً في أنحاء المعمورة، فهو شائع جدا، وينطوي على معدلات أمراض ووفيات مرتفعة تصل إلى 50 في المئة من المرضى الذين يصابون به. وفي عام واحد من المتوقع أن يموت من جراء هذا المرض أكثر من 1,000,000 شخص في أنحاء العالم المختلفة. كما أنه السبب الرابع للوفاة من بين سرطانات الرجال بعد سرطان الرئة والكبد والدم والسبب الثاني لوفيات النساء من السرطان بعد سرطان الثدي. ويمر سرطان المستقيم بأربع مراحل، يكون فيها مستوطناً في داخل جدار المستقيم بدرجات متفاوتة في المرحلتين الأولى والثانية، فإذا ما تم اكتشافه في إحدى هاتين المرحلتين فإن نسبة الشفاء منه بإذن تكون أكثر من 80 في المئة. تقلل نسب الشفاء منه كلما تقدمت مرحلته المرضية فتصبح 60 في المئة إذا خرج الورم من جدار المستقيم وغزا أو وجد في الغدد اللمفاوية وتتدنى النسبة إلى أقل من 30 في المئة في المرحلة الرابعة، وهي مرحلة انتشاره في الأجزاء البعيدة من الجسد. مع الأسف، لا تدل الأعراض التي يشتكي منها المريض في كثير من الأحيان على مرحلة السرطان المرضية. فنصيحتي لك أخي القارئ السليم المعافى الذي لا يشتكي من أي أعراض أن تقوم بالكشف على قولونك بالمنظار إذا كنت ممن ينطبق عليه التالي: * بلغت من العمر 50 عاماً وأكثر. * إذا كان قد سبق وعانيت نشوء سلائل (لحميات) في القولون أو في المستقيم. * إذا كنت تعاني أمراضا التهابية في الأمعاء - القولون - والمستقيم. * خلل وراثي له تأثير في القولون والمستقيم: المتلازمات الوراثية التي تنتقل في العائلة من جيل إلى آخر يمكن أن تزيد من خطر الإصابة بمرض سرطان القولون. حماكم الله جميعا، وأخيرا تذكروا أن درهم وقاية خير من قنطار علاج.