كانت مكةالمكرمة قرية صغيرة، ثم كبرت هذه القرية حتى أكلت مدن الباطل، ولدت مدن الخير والحق، ثم كبرت حتى صارت أم الأرض كلها. انبثق الإسلام من هذه القرية الصحراوية، لا في جنات الشام، ولا تحت قباب القسطنطينية، ولا بجانب إيوان المدائن، ولا في أوروبا التي كانت يومئذ مسرح وحوش على صورة بني آدم. هذه هي القرية التي أخرجت الإنسان من ضيق الدنيا إلى سعتها، وأعادت إلى الإنسانية حريتها الفردية وكرامتها. وكانت البشرية جثة هامدة، ليس فيها حرارة روح، ولوعة قلب وسمو النفس، وإذ بهذه الجثة البشرية الهامدة تدب بها الحياة، وإذا بهذا الجسد الميت يهتز اهتزازاً يزلزل به أوكار الطيور التي قد عششت عليه وباضت وفرخت وهي تحسب أنها ميت، لا حراك فيه ولا نشاط، إذا طلع في هذه القرية فجر السعادة والعدل في العالم، وإذا بعثت في هذه القرية رسالة من السماء، وهذه الرسالة ضربة قوية على أفكار الحياة بأسرها ويتأثر بها هيكل الحضارة والسياسة بجميع أركانه. من هنا تفجر ينبوع الإسلام، ومن هنا خرجت جنات الشام والأندلس، وعلى هذه الجبال السود نزلت رسالة للإنسانية، من هنا خرجت الحضارة الخيّرة التي لا تزال الإنسانية تنعم بخيراتها، فما رأينا مكاناً، أبلغ في القلوب أثراً، وكان أكثر على البشرية فضلاً، وأخلد في التاريخ عظماً، وأكبر على الحضارة يداً. وفي هذا المكان المتواضع المنقطع عن العالم المتمدن، في هذه القرية ولدت قوة جديدة لمكافحة الشر، وصد تيار الفساد لتكوين المجتمع الجديد وخدمة الإنسانية، وهذه القوة الباهرة جددت الأمل في الإنسانية ومستقبلها، وأعادت كرامة الإنسان إلى الإنسان. وفي هذه القرية وجدت الإنسانية الأمل والإيمان الذي فقدته منذ مدة طويلة. إن المصلين يتوجهون جميعاً، من آفاق الأرض الأربعة، خمس مرات كل يوم، إلى هذه القرية التي فيها البنية السوداء- الكعبة المقدسة- يقومون صفوفاً وراء صفوف، يتصورونها على البعد من وراء الجبال والبحار، وقلوبهم تهفو إليها أكثر مما يهفو إلى المحبوب قلب العاشق الهيمان، وبينهم وبينها ألف حجاب، فلا يزال الحاج منهم يجزع الأرض يدنو منها، وكلما دنا وارتفعت له الحجب، حجاباً بعد حجاب، زاد به الشوق خطوة بعد خطوة، حتى يصل في حضرة القدس، وإذا هو يلمس بيده جدرانها ويقبل حجرها، وإذا هو في لذة من لذائذ الروح، لو اجتمعت أقلام أدباء البشر من كل لسان لما استطاعت وصفها. يشارك في الموكب الذي بدأ يسير من عهد إبراهيم، لم ينقطع أبداً، موكب الطهر الذي يسير في الليل والنهار على مدى الأيام وكر الليالي، موكب الطائفين، فهو يشعر كأنه قد حل عنه قيد الزمان والمكان. هذه قرية «مكة» التي تغيّر بها مجرى التاريخ وانقلب بها تيار الحياة واستأنف العالم سيراً جديداً إلى نحو جديد. هذه هي القرية التي أهدت للعالم شيئاً من الإيمان واليقين، فتبدل الأرض غير الأرض، وتغير العالم غير العالم. هذه هي القرية، منزل الوحي ومبعث الدين الحنيف، فيها الدين والدنيا، فيها أمجاد الماضي وآمال المستقبل. * الأستاذ المساعد - قسم اللغة العربية وآدابها جامعة عالية - كولكاتا - الهند