منذ بداية الإنسان وهو يبحث عن توفير طرق حياة سهلة من خلال تطوير ما هو موجود في الطبيعة وتسخيره لاستخداماته المعيشية، لتبدأ مرحلة الاستيطان والتي ركزت على إيجاد المصادر الأساسية التي تبقيه على قيد الحياة، إلى أن أصبحت تتمحور حول تطوير هذه المصادر لكي توفر أساليب حياة الرفاهية، والتي دفعت المجتمعات لتكون أكثر تمدناً، وهذا ما شكل مفهوم المدينة. إن وجود المدينة أظهر التحضر كنتيجة لتطوير المصادر الأساسية، حيث أن مفهوم التحضر هو المعنى المرتبط بهجرة السكان من الريف إلى المدن بحثاً عن سبل العيش المتوفرة، بحيث أن التنمية الحضارية أصبحت مركبة وأكثر جودة من كونها بسيطة ومحدودة في المجتمعات الريفية، لتتطور بها المدن وتتوسع عمرانياً وتصبح مترابطة ببعضها. والتسارع في عملية التنمية أدى إلى توسع في إطار الاحتياج الإنساني الأساسي ليتضمن ليس فقط توفير احتياجات الوجودية الإنسانية بل إلى تلبية الرغبات الفردية، بحيث أنه كلما كانت هذه التنمية أسرع وأسهل في تلبية الاحتياج كلما كانت العملية أكثر فاعلية، لتحفز بها تطوير معادلة الابتكار لدى الإنسان منذ بداياته إلى أن وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم، فمثلاً كان الاحتياج الإنساني في البدء للسكن مرتبطاً بالمأوى، فإذا به اليوم أصبح أكثر ارتباطاً بالخدمات الإضافية التي تجود احتياج السكن، من قبيل الماء والصرف الصحي والإنترنت التي أضحت مكوناً رئيساً لقيمة المسكن، وهكذا انتقلنا من ضرورات الحاجة إلى المأوى إلى ضرورات جديدة تتعلق باحتياج الخدمات والتي ألحقها الإنسان بالمأوى، وبالتالي فإن عملية توفير هذه الخدمات تتطلب إجراءات أسهل وأسرع لمواكبة التطور في هذه الصدد وتلبيتها بفاعلية وكفاءة، والتي ظهرت بها متطلبات الثورات الصناعية، وأهمها الثورة الثانية المعتمدة على الطاقة الاحتراقية والتي ابتدأت بالطاقة البخارية والفحمية ثم النفطية. وهذا الانتعاش الذي حدث في نظام الابتكار لتطوير التنمية، رفع من فاعلية الخدمات العامة حيث أن الأنظمة الضرورية كالصحية والتعليمية وغيرها تطورت مما انعكس على تطور الظاهرة الإنسانية شكلاً ومضموناً، لتجعلهما يطوران البنية التحتية لعملية التنمية حول العالم، والتي ارتكزت طبيعتها على مصدر الطاقة الاحتراقية ومؤخراً الطاقة النفطية، فالعملية التنموية بنيت أساساتها على الطاقة الاحتراقية ذات المصدر النفطي، ومنذ الثورة الصناعية الثانية فإن عملية تطوير الأدوات التنموية وتكييفها كان لاستغلال مصدر الطاقة الاحتراقي بفاعلية، وهذا سهّل العيش من خلال انتشار الخدمات والمنتجات، ودخولها كجزء رئيس من جودة الحياة، لترتفع نسبة الطلب لهذه الخدمات وتحويلها لتصبح ضرورية تزامناً مع ارتفاع نسبة السكان حول العالم الذي جعل من عملية التنمية ديناميكية وغير مستقرة. ولأن الطاقة الاحتراقية في طبيعتها الكيميائية تنتج ثاني أكسيد الكربون كناتج لاحتراق مكوناتها، فإن هذا الغاز رُبط كسبب رئيس من أسباب المتغيرات المناخية والتي يراها المختصون سبباً في التقلبات الجوية والتحولات في درجات الحرارة والفيضانات والزلازل في المناطق المختلفة وغير المسبوقة، وأن ربط مصدر الطاقة النفطي في سياق هذه المفاهيم رسم صورة ذهنية بأن السيطرة على تحولات المناخ وارتفاع منسوب المياة في البحار والمحيطات والتأثير على مساحة الغطاء النباتي يكون من خلال التفكير خارج عن النفط، إلا أن الموازنة في كيفية الحفاظ على الأسلوب المعيشي والتنموي الذي نعيشه اليوم يتطلب التفكير في الطاقة النفطية من حيث فاعليتها على المدى القصير والمتوسط بأقل تقدير. وهذه الصورة الذهنية وجهت نظام الابتكار حول العالم للبحث عن مصدر طاقة مختلف عن النفط كحل رئيس لظاهرة المتغيرات المناخية والاحتباس الحراري بمثل المصادر الطبيعية كالرياح والطاقة الشمسية وغيرها، وهذه الخيارات فعلياً مقبولة إلا أنها قد تكون ذات كفاءة في التقليل من ظاهرة المتغيرات المناخية ولكن غير فعالة من ناحية الشمول والتكلفة والوقت، خصوصاً مع دينامكيّة التنمية واحتدام الصراع الاقتصادي حول العالم، وأن التخلي عن استخدام مصدر الطاقة القائم اليوم سيؤثر على مكانة أي دولة اقتصادياً وكانت جائحة كورونا درساً واقعياً لذلك، مما يجعل الفكرة الرئيسة بدلاً من التفكير بعيداً بالنظر في مصدر طاقة مختلف عن المصدر النفطي فكرة غير فعالة على المدى القصير والمتوسط، وأن التفكير في كيفية الاستفادة من مصدر الطاقة النفطي سيكون هو القاعدة الرئيسة للحفاظ على مكتسبات أي دولة حول العالم على المدى القصير والمتوسط. فما يشكله النفط الآن باعتباره مصدراً رئيساً للطاقة القائمة اليوم، يجعله خياراً أمثل في توجيه نظام الابتكار نحوه، ففاعلية الطاقة تكمن في سهولة استخراجها وسهولة نقلها ومواءمتها لطبيعة البنية التحتية للعملية التنموية، وأي تغيير جذري في طبيعة مصدر الطاقة سيتطلب وقتاً لإنشاء نظام تنموي جديد، قد يستغرق بضعة عقود من أجل الوصول إلى الشمولية والتأثير في تركيبة الاقتصاد العالمي، كما أن الصراع الاقتصادي حول تأمين المتطلبات المجتمعية والتي أصبحت مركبة ومرتبطة بأدوات الطاقة الاحتراقية سيلغي فكرة استبعاد النفط والانتقال إلى حقبة ما بعد النفط، بل بالأحرى إن ما سيحدث هو تحوله هدفاً رئيساً، للتفكير في تحويله إلى طاقة نظيفة، وهو ما استشعرته المملكة حين قدمت مبادرتها في الاقتصاد الدائري للكربون والتي أعلنت خلال قمة مجموعة العشرين في الرياض، وتكمن في تحييد الانبعاث الكربوني من خلال التخفيض وإعادة الاستخدام والتدوير والإزالة، كما أعلن سمو سيدي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان عند افتتاحه قمة مبادرة الشرق الأوسط الأخضر على إنشاء منصة تعاون لتطبيق الاقتصاد الدائري للكربون، وعليه فإنه حتماً سيكون الرهان ما زال قائماً على عصر جديد للنفط النظيف وليس على عصر ما بعد النفط، لما له من ارتباط وثيق بأساسات تنمية الإنسان للصناعة وتوفير الاحتياجات خلال العقدين السابقين، والرهان على أن من سيصل أولاً للطاقة النظيفة بعيداً عن الانبعاث الكربوني سواء كانت بمصدر نفطي أو بغيره، هو من سيملك التأثير في ميزان الصراع الاقتصادي العالمي.