إن سياسات أو استراتيجيات استقطاب العقول - المؤهلة تأهيلاً علمياً عالياً - التي تتبناها بعض الدول ثبت يقيناً مدى فائدتها العظيمة على المجتمعات المستقطبة للعقول المؤهلة علمياً وفكرياً، حيث ساهمت تلك العقول المُهاجرة في تطوير وتنمية وتحديث وتقدم المجتمعات التي هاجرت إليها.. صِناعة العلماء والمفكرين والفلاسفة، وتأهيل المبدعين والتقنيين والفنيين، ورعاية المتعلمين والدارسين والباحثين، ودعم المراكز الفكرية والبحثية والمختبرات العلمية، أهداف سامية وجليلة تسعى لها الدول الطموحة المُتطلعة للرُقي في سلالم المجد التاريخية، ومساعٍ عظيمة تعمل عليها الدول الطموحة المُتطلعة لتصدر قوائم تصنيفات الدول الرائدة والمتقدمة عالمياً في المجالات الصناعية والتقنية والتكنولوجية. فإن نجحت تلك الأهداف السامية والجليلة، وإن تحققت تلك المساعي العظيمة، فحتماً ستنال تلك الدول مبتغاها، وسوف تحقق أهدافها وغاياتها، لتكون في مكان القيادة بدلاً من التبعية، ولترسم السياسات بدلاً من تلقي الأوامر، ولتصبح في الصدارة بدلاً من تذيل قوائم الإنجازات والإبداعات. وستكون النتيجة مُعاكسة تماماً للدول التي تسير في الاتجاهات المُضادة لتلك الأهداف السَّامية والجليلة والعظيمة. وبما أن الوصول لتلك الأهداف السَّامية والجليلة، والطموحات النبيلة، والمساعي العظيمة، يتطلب جهوداً فكرية جبارة تخطط بذكاء للمستقبل، وبذل مالي ومادي كبير لتهيئة بيئة طلب العلم والبحث العلمي باحترافية عالية، وصبر عظيم حتى تتحصل المعرفة وتتطور الأفكار وتنجح التجارب، ووقت طويل يمتد لعقود متتالية حتى تتطور وتتقدم وتتأهل الموارد البشرية بما يتناسب مع المعايير العالمية، لجأت بعض الدول إلى استخدام طرق وأساليب مُختصرة تمكنها من تحقيق تلك الأهداف السَّامية والطموحات العظيمة بأسرع وقت، وأقل جهد، وذلك من خلال طرق متعددة سواءً تمثلت بالاستقطاب المباشر وتقديم العروض المناسبة للموارد البشرية المؤهلة تأهيلاً عالياً واحترافياً في مختلف المجالات العلمية والفكرية والفلسفية والتقنية والتكنولوجية، أو من خلال فتح باب الهجرة للحاصلين على الدرجات العلمية العالية في مختلف المجالات العلمية والفكرية والفلسفية التي تحتاجها المؤسسات والجامعات والكليات والمراكز الفكرية والبحثية. وبهذه الوسائل المختلفة والطرق المتنوعة التي تستخدمها الدول – لاستقطاب العقول المؤهلة تأهيلاً عالياً واحترافياً – تتمكن الدول من اختصار الوقت للارتقاء بمكانتها الدولية وتحقيق درجات متقدمة في التصنيفات العالمية. وإذا كانت هذه العملية التي يطلق عليها – "هجرة العقول" – عملية قائمة على مدى القرون الماضية – خاصة مُنذُ قيام الدول بشكلها الحالي بعد مؤتمر ويستفاليا 1648م –، إلا أن هذه العملية تتصاعد لمستويات عالية جداً وترتفع وتيرتها في أوقات الصِراعات الدولية والنزاعات المُسلحة حيث تعمل الدول المُتطلعة للارتقاء بمكانتها الدولية والعالمية على استقطاب وفتح باب الهجرة لذوي العقول المُحترفة من العُلماء والمُفكرين والفلاسفة والباحثين والتقنيين المحترفين والتكنولوجيين المميزين، وتقدم لهم العروض التي تقدر مكانتهم، وتهيئ لهم البيئة التي تناسب مؤهلاتهم، ليتمكنوا من توظيف قدراتهم العلمية والفكرية بالشكل الصحيح، وليساهموا باختراعاتهم النوعية، وإنجازاتهم المميزة، وأبحاثهم الدقيقة، بالارتقاء بمستوى المجتمع الذي قَدَّر عِلمهم، وهيأ لهم بيئة علمية مُنتجة ورصينة، ووفَّر لهم سُبُل الحياة الكريمة بما يتناسب ومكانتهم العلمية والفكرية والفلسفية المميزة. نعم، إن "هجرة العقول" – المؤهلة تأهيلاً علمياً وفكرياً وفلسفياً وتقنياً وتكنولوجياً – تتصاعد لدرجات متقدمة جداً في فترة الصراعات الدولية لتخسر جهودهم ووجودهم الدول الداخلة في صراعات وحروب ونزاعات مع دول أخرى، ولتكسب علمهم وفكرهم ومهاراتهم الدول المتطلعة للمستقبل، والجاهزة علمياً، وفكرياً، ومؤسساتياً، لاستثمار علمهم وفكرهم ومهاراتهم العالية. إنها مُعادلة سياسية أثبت صحتها وواقعها التاريخ البعيد والقريب والحاضر. فعندما عمَّت أوروبا الحروب بسبب الثورات والنزاعات العرقية والإقليمية، والصراعات الدينية، خلال القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر، هاجر الكثير من أصحاب الطروحات العلمية والفكرية والفلسفية نحو العالم الجديد – التي عرفت لاحقاً باسم الولاياتالمتحدةالأمريكية – ليساهموا في تأسيسها وتنميتها وبنائها خلال فترة قصيرة جداً من استقلالها عن الاستعمار البريطاني والفرنسي والإسباني، ولتسير بخطوات ثابتة ومستقيمة نحو الريادة العالمية. وعندما كانت أوروبا مسرحاً للحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، هاجر الكثير من العُلماء والمفكرين والفلاسفة نحو الولايات المُتحدة الأمريكية – التي قَدَّرت علمهم، وهيأت لهم كل البيئة المناسبة، ووفرت لهم الحياة الكريمة – ليُساهموا بعلمهم المُتقدم وفكرهم المستنير في تعزيز مكانة الولاياتالمتحدة العالمية. وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي في 1991م، واستقلال عدد من دول شرق أوروبا ووسط آسيا، عملت الدول الصناعية والمتقدمة في الغرب والشرق على فتح باب الهجرة والاستقطاب للعُلماء والمفكرين والفلاسفة الراغبين في استثمار علمهم، وتطوير فكرهم، وتقديم اختراعاتهم، وتنمية مهاراتهم، والحصول على التقدير المعنوي والمادي بما يتناسب مع مكانتهم العلمية والفكرية. وعندما اندلعت الحرب العراقية – الإيرانية 1980م، فتحت الدول المُتطلعة للمستقبل في الغرب والشرق باب الهجرة والاستقطاب للعُلماء والمفكرين والفلاسفة والتقنيين والتكنولوجيين، وقدمت لهم العروض التي تُقدِر علمهم وتمكنهم من تحقيق طموحاتهم العلمية والفكرية والفلسفية، وليتمكنوا من المساهمة في تنمية وتطوير وتقدم تلك المجتمعات التي هاجروا إليها. وعندما عمّت الفوضى السياسية بعض المجتمعات العربية عام 2011م، فتحت الدول المُتقدمة والصناعية في الشرق والغرب باب الهجرة والاستقطاب للعُلماء والمفكرين والفلاسفة والتقنيين والتكنولوجيين العرب، وقدمت لهم العروض بما يتناسب ومكانتهم العلمية والفكرية، ليُساهموا في تعزيز التنمية والتقدم والريادة لتلك المجتمعات التي وفَّرت لهم كل سُبل التقدير والاحترام والحياة الكريمة. وكما يحدث في أوقات الصراعات والحروب الدولية، فإن المتوقع في وقتنا الحاضر – مُنذُ بدء الصراع الروسي الأوكراني في فبراير 2022م – أن تعمل الدول المُتقدمة والصناعية في الغرب والشرق على فتح وتسهيل باب الهجرة والاستقطاب للعُلماء والمُفكرين والفلاسفة والتقنيين والتكنولوجيين والمُتخصصين في الأمن السيبراني ليتم استثمار علمهم وفكرهم ومهاراتهم العالية في تعزيز تقدم تلك المجتمعات سياسياً واقتصادياً وفكرياً وصناعياً وتقنياً وتكنولوجياً وفي غيرها من علوم ومجالات تتطلبها الريادة العالمية والتفوق الدولي. نعم، قد تتنوع أسباب ومسببات الصِرعات الدولية، وقد تختلف المُبررات المُصَدَّرة لبدء النزاعات المسلحة، وقد تَفتَعِل وتُهيئ وتُشعِل أطراف ثالثة الحروب بين أطراف دولية مُعادية لها وبعيدة عنها، وقد تتعدد الخسائر البشرية والمادية التي تُعاني منها الدول الداخلة في صِراع مُسلح، إلا أن النتيجة الثابتة والمؤكدة التي لا يمكن التشكيك فيها هي أن جميع الدول الداخلة في نزاع مُسلح ستخسر وستعُاني من "هجرة العقول" العلمية والفكرية والتقنية والتكنولوجية المميزة التي عملت على رعايتها وتأهيلها ودعمها وتطويرها عقود عديدة، وبذلت في سبيل ذلك كله الأموال الطائلة. وفي الختام من الأهمية القول: إن سياسات أو استراتيجيات استقطاب العقول – المؤهلة تأهيلاً علمياً عالياً – التي تتبناها بعض الدول ثبت يقيناً مدى فائدتها العظيمة على المجتمعات المستقطبة للعقول المؤهلة علمياً وفكرياً، حيث ساهمت تلك العقول المُهاجرة في تطوير وتنمية وتحديث وتقدم المجتمعات التي هاجرت إليها، وحافظت على تصدرها التصنيفات العالمية، بينما تراجعت التنمية والتطوير والتحديث في المجتمعات التي خسرت أبناءها من أصحاب العقول المؤهلة تأهيلاً عالياً مما جعلها في مراكز متأخرة جداً في التصنيفات العالمية. نعم، فكما أن "هجرة العقول" تساهم في تقدم المجتمعات وتصدر الريادة العالمية للدول المستقطبة لها، فإن خسارتها تتسبب بالتخلف والتراجع للمجتمعات التي هجرتها تلك العقول لأي سبب كان.